المرتبة الثالثة: سن الكهولة، وهو من الأربعين إلى الستين، وهذه المرتبة يشرع فيها الإنسان فى النقص، لكنه نقص خفى قد لا يظهر.
المرتبة الرابعة: سن الشيخوخة والانحطاط الظاهر، وتمامه عند الأطباء إلى مائة وعشرين سنة.
فهذا الاختلاف فى الجسم الإنسانى بالتزايد، والنقص، والانحطاط الخفى والجلى، مع استواء أحوال التربية والتدبير الكائنين من قبل نفسه، يدل على أنه بتدبير الفاعل المختار، قال تعالى فى سورة النحل: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [النحل: ٧٠].
فقوله: يَتَوَفَّاكُمْ، أى بآجال مختلفة، فلا يقدر الصغير أن يؤخر، ولا الكبير أن يقدم، فمنكم من يموت على حال قوته، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ.
وقوله سبحانه فى آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، يعنى عليم بمقادير أعمارهم، يميت الشاب النشيط، ويبقى الهرم الفانى، وفى ذلك تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم، وعدل أمزجتهم على قدر معلوم، ولو كان مقتضى الطباع كما يقول الطبيعيون، لم يبلغ التفاوت بينهم هذا المبلغ.
٢ - البر يلد الفاجر، والفاجر يلد البر: أما أن البرّ يلد الفاجر، فهو ما يصرح به قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وولده إسحاق، عليهما السلام: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات: ١١٣]. قال صاحب الكشاف عند هذه الآية ما نصه: وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجرى أمرهما على العرق والعنصر، وهذا ما يهدم أمر الطبائع والعناصر.
وأما أن الفاجر يلد البر، فهو ما يشير إليه قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: ٧٤]، على أرجح الأقوال أنه أبوه لا عمه.
ولا شك أن الماديين يرون هذه المخالفات بعقولهم، ويبصرونها بأعينهم، فبماذا يعللونها وقد انقطع أصلهم، وانهدم ركنهم بمثل هذه الوقائع وتلك المشاهدات. وإنا لا نأتى إليهم بمثل هذه الحقائق من حيث إن القرآن الكريم قالها، فهم قاتلهم الله لا يؤمنون به، وإنما نأتى إليهم من حيث إن القرآن ذكرها حقيقة محسوسة، وواقعة ملموسة