كما فى لِنُبَيِّنَ اعتناء ببلوغ الأشد، حيث يكون عنده التكليف، إذ هو المقصود من الإقرار فى الرحم، والمعنى: نمد أجلكم لتصلوا بهذا الانتقال إلى كمالكم فى القوة والعقل.
المرتبة السابعة: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج: ٥]، أى ومنكم من يتوفّى عند بلوغ الأشد أو قبله، ومنكم من يرد بالشيخوخة إلى أخس العمر، وهو سن الهرم، فتنقص جميع قواه، ويعود كهيئته الأولى فى أوان الطفولة من سخافة العقل وقلة الفهم، فينسى ما علمه وينكر من عرفه، فما أعظم هذه الدلالات على المراد، وما أوضح هذه الحالات على المقصود، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: ٤٦].
ولما تم هذا الدليل بأحكم المقدمات وأصح النتائج، وكان أول الإيجاد فيه غير مشاهد، وهو قوله تعالى: خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ [الحج: ٥]، ذكر سبحانه دليلا آخر على البعث مشاهدا فى كل أحواله وملابساته، وهو قوله جل شأنه: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً، أى ساكنة يابسة، فَإِذا أَنْزَلْنا بما لنا من القدرة، عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت وتأهلت لإخراج النبات وَرَبَتْ أى ارتفعت، وذلك أول ما يظهر منها للعين، ونمت بما يخرج منها من النبات الناشئ من التراب والماء وَأَنْبَتَتْ فيه مجاز؛ لأن الله تعالى هو المنبت، وأضيف إلى الأرض توسعا، مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ [الحج: ٥] حسن المنظر، نضير باختلاف الألوان، والطعوم، والروائح، والأشكال، والمنافع، والمقادير.
الموضع الثالث من سورة الروم:
قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم: ٨].
قوله تعالى: فِي أَنْفُسِهِمْ، إما أن يكون ظرفا للتفكير، والمعنى: أو لم يشغلوا قلوبهم الفارغة عن الفكر بالفكرة الصالحة، والتفكير وإن كان محله القلب، إلا أنه زيد قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ لزيادة تصوير حال المتفكرين، كما يقال: أبصره بعينه وأضمره فى نفسه، وعلى هذا يكون المتفكر فيه هو قوله: ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على ما هما عليه من النظام المحكم، والقانون المتقن، فيعلموا أن الله تعالى لم يخلقهما


الصفحة التالية
Icon