أقاصيص الأولين، وأحاديث الآخرين على ما هى عليه، علم أنه معلم به من الله تعالى.
وما أبدع قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: ١٦]، أى أفلا تستعملون عقولكم لتعلموا أن مثل هذا الكتاب العظيم ممن لم يتعلم ولم يتتلمذ، ولم يطالع كتابا، ولم يمارس مجادلة، إنه لا يكون إلا على سبيل الوحى.
والآية فى فحواها ومعناها جواب عما دسوه تحت قولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: ١٥] من إضافة الافتراء إليه صلى الله عليه وسلم، فهذا محمد قد انقضى شبابه وولى، وأشرف على نهاية العقد الرابع من عمره، دون أن يبدو من أمره شىء خارق، أو يند عن المألوف فى قومه إلا اشتهاره بالصدق والأمانة.
وفجأة، وفى هذه الفجاءة السر كل السر، إذا هذا الرجل الذى قطع ثلثى عمره هادئا ساكنا، يصبح داعية حق، فيقذف بالحق الإلهى على الباطل الجاهلى فيدمغه، آخذا بيد قومه إلى حيث نور الحقيقة الكبرى.
ثم لم يلبث أن اتصل ﷺ بملوك الأرض وأباطرتها عن طريق الكتب والرسائل، يدعوهم إلى الهدى والرشاد، منذرا لهم بعذاب أليم، إن هم صموا آذانهم عن سماع دعوته، واعدا إياهم جنة النعيم إن هم آمنوا برسالته، ثم أتبع القول العمل، فسيّر جيوشه فى غزوة تبوك إلى حدود الشام.
وإن هو إلا وقت يسير بعد وفاته، حتى قام خلفاؤه الذين استقوا من نبعه واهتدوا بهديه يكتسحون الدنيا شرقا وغربا، وما هى إلا ثمانون سنة على ما قدره المؤرخون حتى كان أكثر من مائة مليون من البشر يدينون بدين هذا الأمى العربى عن طواعية واختيار وحب وإكبار.
واليوم بعد أربعة عشر قرنا من الزمان يزيد أتباعه عن ألف مليون من البشر، وهم فى ازدياد مستمر. وهذا أمر منقطع النظير، وحدث لم تشهد الدنيا له مثيلا بإجماع أهل الرواية والنقل الذين أنصفوا الحقيقة وصانوا لها حرمتها وقداستها.
هذا بالنسبة لتأسيس الدولة وقيامها فى تلك المدة الوجيزة، أما ما احتوته الدعوة من حقائق ونظم وتشريع، فهو أمر فوق القدر، ولا يأتى به إلا خالق البشر، فلو نظرنا إلى ما فى القرآن من تشريع لوجدنا فيه من القوانين والمبادئ الأساسية لتنظيم حياة الفرد والجماعة فى حالتى السلم والحرب ما لا زيادة عليه لمستزيد، فالحرية، والإخاء، والمساواة، والشورى، والتعاون الفردى والجماعى، كل ذلك نبه عليه القرآن وجلاه منذ


الصفحة التالية
Icon