هذا ولا ينافى عموم لفظ النَّاسُ الشامل للمؤمن والمنافق، ما روى عن علقمة والحسن، وهما تابعيان جليلان، أن كل حكم وخطاب نزل فيه: يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: ٢١] فمكى، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: ١٠٤] فمدنى، فإنه يدل على تخصيص الناس بالكفار الكائنين بمكة، لأنا نقول: إن كان ذلك رأيا لهما، فلا يعترض به على عموم لفظ الآية، وإن كان مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فلا يوجب تخصيصه بالكفار، فإن كونه مكيا لا يوجب كون الخطاب متوجها إلى من فى مكة من الكفار فقط؛ لأن أهل مكة ليسوا بمشركين جميعا، بل منهم من هو مؤمن خالص.
وقد يقال بناء على هذا العموم: كيف يوجه الأمر بالعبادة إلى الكفار، وليسوا مكلفين بها حال كفرهم؛ لانتفاء شرط صحتها، وهو الإيمان، وهذا الحكم متفق عليه بين الأئمة الشافعية والحنفية.
فنقول: أن أمر الكفار بالعبادة معناه أمر بتحصيل شرطها، وهو الإسلام، كأنه قيل لهم: حصلوا أولا شرط العبادة، ثم ائتوا بها، فإن الأمر بالشىء يتضمن الأمر بإتيان ما يتوقف عليه أيضا، كما إذا أمر المحدث بالصلاة، فإنه مأمور بالتوضؤ أيضا ضمن أمره بالصلاة ضرورة أن وجوب الشيء يوجب وجوب ما لا يتم ذلك الشيء إلا به، وقد يقال أيضا، بناء على هذا العموم: أن خطاب اعْبُدُوا على تقدير عمومه لفرق المكلفين من مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، يستلزم إما استعمال اللفظ المشترك فيما وضع له عموما، وإما عموم المجاز، فإن العبادة التى أمر بها كل فريق غير العبادة التى أمر بها الفرق الباقية.
فنقول: استعمل لفظ اعْبُدُوا فى المعانى المختلفة للفظ العبادة، وظاهر أن أحداث العبادة فى المستقبل معنى حقيقى له، فإن كانت المعانى الأخرى كذلك يلزم الأمر الأول، وإلا يلزم الأمر الثانى، فإن المأمور به هو القدر المشترك بين تلك المعانى، وليس له معان متعددة حتى يلزم أحد المحظورين، بل له معنى واحد وهو القدر المشترك بين أفراده، فالمطلوب على هذا من المؤمن، والكافر، والمنافق، قدر مشترك بينها، وهو الاتجاه إلى الله تعالى، فيكون معناه بالنسبة للكفار، إحداث العبادة بعد تحصيل شرطها على ما تقدم، وبالنسبة للمؤمن زيادته فى العبادة واستمراره فيها، وبالنسبة للمنافق تخليص قلبه من غير الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon