تكلف، إما أن يحمل قوله تعالى: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: ٤٠] على حذف كلمة (وعلى آبائكم)، وإما أن يجعل الخطاب لجميع بنى إسرائيل الحاضرين والغائبين بتغليب الحاضرين، فإنه لو لم يتكلف أحد هذين الوجهين، للزم أن يجمع بين الحقيقة والمجاز فى قوله تعالى: عَلَيْكُمْ بأن يراد ما أنعم به عليهم وعلى آبائهم.
وقيل: أراد بقوله تعالى: أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ما أنعم به على جميع البشر من خلقهم أحياء قادرين، ومن خلق جميع ما فى الأرض، ثم تسوية السموات السبع لينتظم جميع ما يصلح به أمر معاشهم ومعادهم، إلى غير ذلك من النعم الشاملة لجميع المكلفين، فعلى هذا فالخطاب وإن كان خاصا ببنى إسرائيل لكونهم مقصودين بالتبكيت، حيث إن هذه السورة أول سورة نزلت بالمدينة، وقد آمن من أجلها من آمن، ولم يبق إلا معاند، ونعنى ببنى إسرائيل اليهود الذى نسوا نعمة الله عليهم، وتركوا شكرها، إلا أن جميع الناس يشاركونهم فى حكم هذا الخطاب، وهو وجوب ذكر نعمته تعالى عليهم لما رزقوا من فنون النعم التى لا تحصى، وعلى هذا يقال: ما دام المراد بالنعمة النعمة العامة لكل البشر، فلم قيدت النعمة بهم، حيث وصفها بقوله تعالى: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ؟.
فنقول: قصد بهذا استمالة قلوبهم، وحملهم على أداء شكرها فيما أمر به ونهى عنه، وهذا المقصود إنما يتم إذا لوحظت النعم باعتبار وصولها إلى المنعم عليه، مع قطع النظر عن حصولها لغيره، فإن هذه الملاحظة بهذه الجهة توجب استمالة قلوبهم، وتحملهم على أداء شكرها.
والذى يتخلص فى بيان المراد من النعمة عليهم: إما أن يكون المراد بالنعمة عليهم نعم آبائهم خاصة، ويكون المراد من قوله سبحانه فيما بعد: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة: ٤٩] التأكيد والتقوية لهذا المعنى، وإما أن يكون المراد نعم آبائهم الماضين، ونعمه سبحانه عليهم فى إدراكهم زمن محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله سبحانه:
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تأكيدا أيضا بالنسبة لنعم الآباء الماضين على ما هو ظاهر، وإما أن يكون المراد بالنعمة عليهم ما أنعم به على جميع البشر، كما تقدم إيضاحه، ويكون قوله:
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تأسيسا لا تأكيدا كما لا يخفى.
ثم ليعلم أن الكلام جرى معهم من هنا يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: ٤٠] إلى