به من تلقاه سماعا، مع كون زيد كان يحفظ، فكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط والإتقان (١)».
وهكذا أدى عمل أبي بكر هذا إلى جمع القرآن بأدق وسائل التحري والضبط، مما جعل الكتاب الكريم في مأمن من ضياع أقسام منه بوفاة حفاظها، أو بفقدان سجلاتها. ولم تكن السجلات الأولى مما يتسنى حفظه في سهولة ويسر، نظرا لاختلاف مواد الكتابة من عسب ولخاف وأكتاف وغير ذلك، وإلا فكيف يتسنى أن تنظم هذه السجلات معا لتكون مرجعا يطلع الناس فيه على كتاب الله.
وقد صور الحارث بن أسد المحاسبي جمع أبي بكر القرآن بقوله: «كتابة القرآن ليست محدثة، فإنه ﷺ كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصدّيق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشرا، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء (٢)».
عثمان بن عفان وجمع المصاحف:
اتسعت رقعة الأمصار الإسلامية في عهد عثمان. لقد حملت الغزوات المسلمين إلى أراض جديدة، وتفرق بعض الصحابة في الأمصار. وتعلم أهل كل مصر من هذه الأمصار قراءة القرآن على يد الصحابي الكبير الذي أقام بينهم، فاتفق أهل الكوفة على مصحف ابن مسعود وأهل البصرة على مصحف أبي موسى الأشعري، وأهل الشام على مصحف أبيّ بن كعب وأهل دمشق على مصحف المقداد بن الأسود. وكان بين هذه المصاحف خلاف في القراءة. فلما اجتمع أهل العراق وأهل الشام لغزو ثغر أرمينية وآذربيجان ظهر الخلاف بينهم في القراءات، وأنكر بعضهم على بعض ما كانوا يقرءونه. وشهد ذلك حذيفة بن
(٢) الزركشي: البرهان، ج ١، ص ٢٣٨.