وثمرة الخلاف:
أن أي قبلة يتولاها العبد إنما تولاها بأمر الله وإرادته، فهو يولي وجهه إليها بإرادته مجازا، وبإرادة الله حقيقة، فهو مولّيها بإرادته وسعيه، ومولّاها بإرادة الله وأمره.
وهكذا فإن تصريح القرآن بوجود إرادة للعبد لا ينفي حقيقة أن الله سبحانه هو خالق الأفعال جميعا: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصّافّات: ٣٧/ ٩٦]، وهذا المعنى البديع، بما فيه من تأليف بين إرادة الله وإرادة العبد لا يظهر إلا من القراءتين جميعا؛ إذ لا تستقل بتبيانه واحدة منهما.
وأشير هنا أن هذا التأليف توافرت عليه الأدلة السمعية حيث نسب الفعل إلى العبد مجازا وإلى الله حقيقة، وزادته هاتان القراءتان توكيدا وظهورا.
وفي كتاب الله من المعنيين جميعا قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ [الأعراف: ٧/ ٤٣]، فنسب الاهتداء إلى العبد مجازا فقال: (لنهتدي) ثم علّقه بإرادة الله سبحانه بقوله: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ.
واختار الرازي الجصاص في تفسيره أن الآية دليل على صحة التوجه إلى جهة القبلة، إذ لا يتصور أن يصيب الناس في توجّههم من الآفاق عين الكعبة، فتكون الآية كالتيسير من المولى سبحانه لأهل الآفاق بقبول توجّههم، ولو لم يصيبوا عين الكعبة حقيقة (١).
ولا يخفى أن اختيار الجصاص هذا محلّه التأويل لا القراءة، لأنه وارد على كلا القراءتين، وقد تقدم قبل قليل الوجه الذي ساقه ابن العربي المالكي، وهو قريب من اختيار الجصاص (٢).
(٢) انظر ما قدمناه في الصفحة السابقة، وهو في أحكام القرآن لابن العربي المالكي، ١/ ٤٤.