عن ظهر قلب، بل قد سجّل كتابة حتى في حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم. إن التّجمعات الأخيرة للقرآن التي تمت في خلافة عثمان، فيما بين اثني عشر عاما وأربعة وعشرين عاما بعد وفاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم قد أفيدت من الرقابة التي مارسها هؤلاء الذين كانوا يعرفون النّص حفظا. بعد أن تعلّموه في زمن التّنزيل نفسه، وتلوه دائما فيما بعد، ومعروف أن النّص منذ ذلك العصر قد ظلّ محفوظا بشكل دقيق، وهكذا فإن القرآن لا يطرح مشاكل تتعلق بالصحة.
إن القرآن- وقد استأنف التنزيلين اللذين سبقاه- لا يخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل، بل يظهر أيضا لكل من يشرع في دراسته بموضوعية، وعلى ضوء العلوم طابعه الخاص، وهو التوافق التام مع المعطيات العلمية الحديثة، بل أكثر من ذلك- ولما أثبتناه- يكشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنسانا في عصر محمّد صلّى الله عليه وسلّم قد استطاع أن يؤلّفها، وعلى هذا، فالمعارف العلمية الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلا تفسير صحيح حتى الآن.
إن مقارنة عديد من روايات التوراة مع روايات الموضوعات نفسها في القرآن، تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علميّا، وبين مقولات القرآن التي تتوافق مع المعطيات الحديثة (١).
وهذا التسليم بموثوقية النّص القرآني تظاهرت عليه الأدلة من العقل والنّقل والواقع، إلى حدّ لا مزيد عليه، وحسبك من ذلك أن نسخ القرآن العظيم التي تطبع اليوم في العالم، وتتجاوز نسخها آلاف الملايين، لا يختلف بعضها عن بعض في كلمة أو حرف أو نقطة أو شكل.
ولعل المنفذ الوحيد الذي اتّخذه خصوم القرآن منفذا للحديث عن اختلاط مزعوم في النّص القرآني هو مسألة القراءات القرآنية، حيث يتوهم هؤلاء أنها ثغرة في عصمة النصوص، وأن الإقرار بها يستلزم القول بتوهين سلامة النّص القرآني، ووجود فقرات بشرية من صنع القرّاء ضمن التّنزيل القرآني الحكيم. ولعل الإجابة على هذا السؤال عينه هي التي كانت وراء اختياري هذه الدراسة.