كازدحامهم عليه، وقد حكى ابن الأخرم عنه أنه وصل إلى بغداد فرأى في حلقة ابن مجاهد نحوا من ثلاث مائة مصدّر» (١).
وقال علي بن محمد المقري: كان لابن مجاهد في حلقته ثمانية وأربعون خليفة يأخذون على الناس.
وقد رأى ابن مجاهد أن ترك الأمر على عواهنه يؤدي إلى اختلاط المسائل، ودخول السليم في السقيم، فلا بدّ إذن من التّمييز بين من يصلح للإمامة، ويتوافر لديه الإسناد الثبت، وبين من يتلقى القراءة من غير أهلها، فيشوبها بالخطإ واللحن.
وهكذا فإنه يبين رأيه جليّا في مقدمة كتابه الشهير السبعة بقوله:
«فمن حملة القرآن من يعرب ولا يلحن، ولا علم له بغير ذلك، فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته، ولا يقدر على تحويل لسانه، فهو مطبوع على كلامه.
ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه، ليس عنده إلا الأداء لما تعلم، ولا يعرف الإعراب، ولا غيره، فذلك الحافظ، فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده، فيضيع الإعراب لشدة تشابهه، وكثرة فتحه وضمه وكسره في الآية الواحدة؛ لأنه لا يعتمد على علم العربية، ولا به بصر بالمعاني يرجع إليه، وإنما اعتماده على حفظه وسماعه، وقد ينسى الحافظ، فيضيع السماع، وتشتبه عليه الحروف، فيقرأ بلحن لا يعرفه، وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره، ويبرئ نفسه، وعسى أن يكون عند الناس مصدقا فيحمل ذلك عنه، وقد نسيه، ووهم فيه، وجسر على لزومه، والإصرار عليه، أو يكون قد قرأ من نسي، وضيع الإعراب، ودخلته الشبهة فيتوهم، فذلك يقلّد القراءة، ولا يحتجّ بنقله، ومن حملة القرآن من هو على مستوى يؤهله إلى معرفة إعراب القراءة، ويبصره بمعانيها، ولكنه لا يعرف القراءات، ولا تاريخها مع جهله بمصادر الرواية، وقد يحمله ذلك على أن يقرأ بحرف يجوز لغة وإعرابا؛ مع أنه لم يقرأ به أحد من السابقين، وهذا يوصله إلى أن يبتدع قراءة جديدة، ومنهم من يعرف قراءته، ويبصر المعاني، ويعرف اللغات، ولا علم له بالقراءات، واختلاف الناس والآثار، فربما دعاه بصره بالإعراب إلى أن يقرأ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين، فيكون بذلك مبتدعا»
(٢).

(١) غاية النهاية، لابن الجزري، ١/ ١٤٢.
(٢) مقدمة ابن مجاهد لكتابه السبعة في القراءات، ص ٤٥ - ٤٦.


الصفحة التالية
Icon