وهكذا فإنه يتبدى لك من رواية الحاكم أن جمع القرآن الكريم كان ثلاث مرات، وقد حظيت كل واحدة من الثلاث بإجماع الأمة واتّفاقها؛ بحيث لا تجد لها مخالفا، وتواتر هذا بالضبط على الوثائق برواية العدول الثّقات، البالغين من الوفرة حدّا يقطع الارتياب، ويجعلك تأمن تواطؤهم على الكذب.
وبعد هذا العرض لمراحل الرسم القرآني حتى عهد عثمان بن عفّان، فإن الذي يعنينا من ذلك هو شكل الرسم الذي رسمت به المصاحف، وعلاقته بالقراءات المتواترة.
من المعلوم أن الجمع الذي قام به أبو بكر رضي الله عنه كان يتضمن الكتبة الأولى التي كتبت بحضرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم والأصحاب وفق معارفهم السابقة. (ولم يؤخذ على كتاب القرآن، وخطاط المصاحف رسم بعينه دون غيره، أوجبه عليهم وترك ما عداه؛ إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتّوقيف) (١).
وهكذا فإن من المفترض أن هذا الرسم لم يكن يؤدي غالبا إلا قراءة واحدة، وهي القراءة التي تلقّاها الصحابي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في أحد المجالس.
فمثلا في سورة آل عمران: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: ٣/ ١٣٦]. فقد قرئت هذه الآية بواو (٢) في وسارعوا، وقرئت بغير واو (٣)،
روايتها في عهد عثمان، انظر فتح الباري ٨/ ٣٤٤، كتاب التفسير سورة الأحزاب.
ولكن حقق ابن حجر في الفتح هذه المسألة بقوله: الصحيح عن الزهري أن قصة زيد بن ثابت مع أبي بكر وعمر عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت، وقصة حذيفة مع عثمان عن أنس بن مالك، وقصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السباق عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، وقد رواه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن الزهري، فأدرج قصة آية سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السباق، وأغرب عمارة بن غزية فرواه عن الزهري فقال: عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، وساق القصص الثلاث بطولها: قصة زيد مع أبي بكر وعمر، ثم قصة حذيفة مع عثمان أيضا، ثم قصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب أخرجه الطبري، وبين الخطيب في (المدرج) أن ذلك وهم منه وأنه أدرج بعض الأسانيد على بعض.
(١) إعجاز القرآن للباقلاني ٤٢.
(٢) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والكوفيين الأربعة، ويعقوب.
(٣) وهي قراءة نافع، وابن عامر، وأبي جعفر.