وتكفينا هذه الإشارات القليلة لإدراك طرف من أسباب وصف اللسان العربي- في القرآن الكريم- بأنه (مبين) وأسباب مقابلته في الوقت نفسه باللسان الأعجمي، الذي ينطبق على سائر الألسنة الأخرى؛ قال تعالى في سورة النحل:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) [الآية ١٠٣].
وقال في سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) [الآيات ١٩٢ - ١٩٥].
كما تكفينا هذه الإشارات لمعرفة السبب الذي نزل القرآن الكريم من أجله بلغة العرب؛ فاللسان العربي المبين أو بوصفه لسانا مبينا، هو أوفر الألسنة التي وزّعها الله تعالى على الشعوب والأقوام حظا لينزل به كتاب الله تعالى المعجز بلفظه ومعناه جميعا؛ قال تعالى في سورة الأحقاف: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) [الآية ١٢].
واللغة الشاعرة بحروفها ومفرداتها وإعرابها... إلخ هي أوفر لغات الأرض حظا لينزل بها هذا الكتاب الخالد... والذي أراد الله سبحانه أن يفوق- بإعجازه وشاعرية لغته- الشعر في وجازته وتأثيره، ولحنه وموسيقاه! فالتعبير القرآني كما هو معلوم ليس فيه قافية الشعر الموحدة، ولا تفعيلاته التامة، ولكن القرآن الكريم قابل للتلاوة ترتيلا وتجويدا، وعلى النحو الذي يتسع للألحان والأوزان، ففاق بذلك الشعر، وكان نثرا من نوع فريد... حتى كان قابلا للحفظ عن ظهر قلب خلال شهور، وربما خلال أسابيع، ولا يدانيه في ذلك أي خطبة بليغة من خطب فصحاء العرب، ولا أي نص من نصوص «النثر» الرفيعة في تاريخ الأدب العربي.