وحين تتجلى له هذه الحقيقة: يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي.. يا ليتني قدمت شيئا لحياتي هنا، فهي الحياة الحقيقية التي تستحق اسم الحياة، وهي التي تستأهل الاستعداد والتقدمة والادخار لها. يا ليتني.. أمنية فيها الحسرة الظاهرة، وهي أقصى ما يملكه الإنسان في الآخرة!
ثم يصور مصيره بعد الحسرة الفاجعة والتمنيات الضائعة فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ.. إنه الله القهار الجبار، الذي يعذب يومئذ عذابه الفذ الذي لا يملك مثله أحد. والذي يوثق وثاقه الفذ الذي لا يوثق مثله أحد. وعذاب الله ووثاقه يفصّلهما القرآن في مواضع أخرى في مشاهد القيامة الكثيرة المنوعة في ثنايا القرآن كله. ويجملهما هنا حيث يصفهما بالتفرد بلا شبيه من عذاب البشر ووثاقهم، أو من عذاب الخلق جميعا ووثاقهم، وذلك مقابل ما أسلف في السورة من طغيان الطغاة ممثّلين في عاد وثمود وفرعون، وإكثارهم من الفساد في الأرض مما يتضمن تعذيب الناس وربطهم بالقيود والأغلال. فها هو ذا ربك- أيها النبيّ وأيها المؤمن- يعذب ويوثق من كانوا يعذبون الناس ويوثقونهم.
ولكن شتان بين عذاب وعذاب، ووثاق ووثاق... وهان ما يملكه الخلق من هذا الأمر، وجلّ ما يفعله صاحب الخلق والأمر. فليكن عذاب الطغاة للناس ووثاقهم ما يكون، فسيعذبون ويوثقون عذابا ووثاقا وراء التصورات والظنون!!
وفي وسط هذا الهول المروع، وهذا العذاب والوثاق، الذي يتجاوز كل تصور تنادى «النفس» المؤمنة من الملأ الأعلى:
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي...
هكذا في عطف وقرب «يا أيتها» وفي روحانية وتكريم «يا أيتها النفس»..


الصفحة التالية
Icon