رواية رابعة حكاها الماوردي، وهي أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، ثم تولى الحفظة تنجيمه على جبريل، ثم تولى جبريل تنجيمه على الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
والحكمة من نزول القرآن منجما تفخيم أمره، وأمر من نزل عليه، وإعلام الملائكة بأهمية آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل، لكي يكون له تميز عن سائر الكتب السماوية.
وقد تولى الله أمر الإجابة عن تساؤل الكفار الذين قالوا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة بأن الإنزال المفرق للقرآن لتثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتقوية قلبه، وتجديد عهده مع جبريل لكي يكون القرآن بالنسبة له نافذة أمل وبسمة رجاء، يمده بالقوة، ويعده بالنصر، ويفسر له المواقف، ويجيبه عن بعض ما يحتاجه من بيان وتوضيح.
ولا أعتقد أننا بحاجة لتأكيد أهمية نزول القرآن منجما من حيث التدرج في مواكبة مراحل الدعوة، في المرحلة المكية أولا، والمرحلة المدنية ثانيا، ومواكبة الأحداث الجسام، في تاريخ الدعوة، وكان القرآن هو المدد الإلهي المتجدد الذي يبعث الحياة في المجتمع الإسلامي الوليد، ويواكب مسيرة الدعوة، مؤيدا وملهما وناصحا ومسددا.
ولا يمكن تصور حياة المسلمين الأوائل بغير ذلك التواصل الإيماني العميق بين السماء والأرض، عن طريق الوحي المتجدد الملهم، الذي كان يغذي مشاعر الإيمان، وينير الطريق لمواكب المؤمنين.
قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١).
وقال أيضا: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٢).

(١) سورة الشعراء، الآيات: ١٩٢ - ١٩٥.
(٢) سورة النحل، الآية: ١٠٢.


الصفحة التالية
Icon