والقاضي عبد الجبار يركز على أهمية الفصاحة في الإعجاز ولا يتصور الإعجاز إلا بالفصاحة، والفصاحة عنده لا تتوقف عند حدود النظم ولا علاقة لها بالشكل والقالب، من حيث كون الكلام شعرا أو نثرا مسجوعا، فالنظم عامل في الفصاحة له أثره الواضح ولكنه ليس العامل الوحيد، ولا بد في الفصاحة من تكامل حسن المعنى وجزالة اللفظ، ومتى تحقق هذا الشرط في الكلام كان فصيحا، سواء كان شعرا أو نثرا، وكلما زادت معالم هذا التوافق في اللفظ والمعنى اتضحت الفصاحة وبرزت في الكلام.
ولعل القاضي عبد الجبار في تركيزه على معنى الفصاحة واعتبارها نتاج عاملين أساسيين، جزالة في اللفظ وحسن في المعنى، إنما يرد فيه على أبي بكر الباقلاني، الذي اعتبر الإعجاز متمثلا في مغايرة جنس الكلام لأساليب العرب وأجناس كلامهم، ولهذا اتجه اهتمام الباقلاني إلى نفي التجانس بين القرآن وكلام العرب، وشدد النكير على من قال بوجود السجع في القرآن، لأن السجع من جنس كلام العرب، والقرآن جاء مغايرا لأساليب العرب، فلا يستقيم أن يوصف أسلوب القرآن بالسجع ولو جاءت أوزانه مماثلة لأوزان السجع في الأسلوب العربي.
ويؤكد هذا الاختلاف بين كل من القاضي عبد الجبار وأبي بكر الباقلاني أن كلّا منهما ينظر للإعجاز من زاوية مغايرة لما ينظر منها الآخر، فالقاضي عبد الجبار لا ينظر للإعجاز من زاوية الخروج عن مألوف كلام العرب، ولهذا لم يحرص على نفي السجع في القرآن، فالأمر لا يعنيه سواء سمي سجعا أو غير سجع، وإنما يعنيه أولا إثبات الإعجاز عن طريق الفصاحة، وطريقها واضح وهو جزالة اللفظ وحسن المعنى، وهذا معيار لا نملك إلا أن نشيد بدقته، لأنه معيار موضوعي، يقيم أمر الإعجاز على معايير موضوعية لا تتصور الفصاحة إلا بها، وليس أدل على الإعجاز من تلاقي «لفظ» بلغ الذروة في الجزالة والقوة و «معنى» بلغ القمة في جودة المعنى ودقته وسلامته، وهنا تبرز تساؤلات حول أهمية المعايير البلاغية ويقف القاضي عبد الجبار أمام هذه المعايير وقفة موضوعية فلا


الصفحة التالية
Icon