فكان المذهبان البصري والكوفي اللذان عنيا بجمع كلام العرب عن العرب أنفسهم، فسمعوا اللغات وعللوها وقاسوا عليها.
وهم وإن اختلفوا في طرائق التأصيل والتقعيد إلا أنهم متفقون في الضوابط والأطر العامة، فامتاز البصريون بالرواية عن الفصحاء الخلّص الذين سلمت لغاتهم من شوائب اللحن، فرووا عن قيس وتميم وأسد وغيرها. أما الكوفيون فقد توسعوا في الرواية عن القبائل العربية كلها، كما توسعوا في القياس والتعليل.
ولقد كان القرآن بقراءاته ورواياته مددا فياضا لا ينضب لقواعدهم ردحا من الزمن حتى طعن بصريّو القرن الثالث في بعض القراءات التي خالفت ما قررته مذاهبهم فردّوها وحكموا بشذوذها.
فكان أن ظهر علماء محققون نعوا على أولئك فعلتهم ونادوا أن اجعلوا القرآن الأساس المكين لقواعد النحو، لأن القرآن فوق النحو والفقه والأصول، بل هو مستند العلوم الإسلامية قاطبة، وهو أساس علومهم.
من أبرز هؤلاء العلماء: الفرّاء وأبو عمرو الداني وابن خالويه وابن حزم والرازي وأبو حيان وابن تيمية وابن الجزري وغيرهم كثير.
وقد عجب هؤلاء العلماء ممن طعن في القراءات كيف أنه إذا وجد قولا قالته العرب أو سمع بيتا لامرؤ القيس أو للحطيئة أو غيرهم، بل إذا سمعوا بيتا لشاعر مجهول طاروا به فرحا واستدلوا به، أما القراءات المأخوذة بالتلقي والمشافهة والتي اعتنت الأمة بنقلها وروايتها فحكموا بشذوذها وضعفها من غير تثبت ولا موضوعية، بل إن قواعدهم التي حاكموا القرآن إليها لطالما تنازع فيها البصريون والكوفيون والبغداديون، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين لم ينقله البصريون والعكس كذلك، وإذا كانوا مختلفين في قواعدهم ومآخذها فكيف تجعل هذه حكما على كلام الحق، منزل اللغات ومعلم الإنسان، ومن حفظ كلامه من التحريف والتزييف.
ولذلك نشأ النحو القرآن جاعلا من القراءة الثابتة أساسا للقاعدة النحوية التي تتسع لتشمل كل ما ثبتت قرآنيته.
وبذلك يكون القرآن الكريم حافظا للغة العرب من الاندثار، وحاميا للهجاتها من الزوال، وذلك من خلال اشتماله على كثير من لهجات العرب وطرائق أدائهم التي رويت متواترة، مشافها بها بنقل العدول الضابطين.


الصفحة التالية
Icon