إن التجربة لا تكون بسيطة أبدا، بل لا بدّ أن تكون مكونة مما تحمله الحواس إلى الفكر، ومما يأتى به الفكر نفسه من معان، يدعو بعضها بعضا؛ فالواقف أمام نهر النيل مثلا، لا تنقل إليه حواسه لون مائه، وحركة موجه، وما على جانبيه من حقول فحسب، بل تنقل إليه أيضا رقة النسيم، ولون السماء، وما قد يكون فيها من سحاب، وهو يضيف إلى ذلك إحساسات أخرى، ولدها خياله، كموازنة هدوئه بالبحر وثورانه، وقد يطوف هذا الخيال بينابيعه، وبالشعوب التى تعيش على ضفافه، أو يعود متوغلا في القدم، فيذكر ما قام على شاطئيه من حضارة ومدنية، فإذا كانت تلك اللحظة الشعورية قوية، تتطلب التعبير عنها، فإن الأديب يستخلصها من بين ما يمر به من التجارب، ويحتفظ بها في نفسه، وكلما احتفظ بها ازدادت غنى، بما ينضم إليها من ألوان الإحساس، وبتداعى المعانى، فإذا أراد أن ينقل تجربته إلى غيره، وجب أن ينقلها كاملة، فلا نكتفى منه بأن يصور لنا المنظر الذى رآه، أو يذكر الإحساس الذى خالطه عند ما رآه، بل يجب أن يؤدى تجربته كاملة الأجزاء، لما شاهده وما أحسه معا، مرتبطين ارتباطا وثيقا، حتى يحس بها القارئ إحساسا كاملا وتنتقل إلى شعوره، فيتخيلها كما أدركها منشئها، وبمثل هذا التناول يخلد الأديب لحظة من لحظات شعور مرت به في حياته.
إن في الإنتاج الأدبى لعملا إراديّا للأديب، ذلك أنه يتناول تجربته، وهى مكونة من أجزاء، فيرتبها ترتيبا منسقا، ثم يأخذ في إيضاح سلسلة خواطره، واحدا واحدا، على أن يكون لكل خاطر منها دخل في تصوير التجربة وإكمالها، فيكون له وجود من أجل نفسه، ووجود من أجل الكل الذى هو جزء منه، وبجمع هذه الأجزاء، تصير التجربة وحدة متسقة، وكلا موحدا، يتصل كل جزء فيها بسائر الأجزاء، أما إذا كان بعض الأجزاء لا دخل له في تكوين الصورة، ولكنه جاء بطريق الاستطراد، أو لم تكن التجربة مسلسلة الخواطر، يرتبط بعضها ببعض، فإنها تنقل إلى السامع مشوهة، لا صلة بين أجزائها ولا اتساق، وهاك تجربة لقتيلة بنت الحارث، وقد أخذت تعاتب الرسول، لقتله أخاها النضر، برغم قرابته له، واتصاله بنسبه:
أمحمد يا خير ضنء (١) كريمة | فى قومها، والفحل فحل معرق |
ما كان ضرك لو مننت، وربما | منّ الفتى، وهو المغيظ، المحنق |
والنضر أقرب من أصبت وسيلة | وأحقهم، إن كان عتق، يعتق |
ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه | لله أرحام هناك، تشقق |