وبهذا استطاع الشاعر، أن يصور لنا إحساسه الروحى بجمال الربيع، ولكنه لم ينس حظ العينين من هذا الجمال، فحدثنا عن الشجر، وقد استعاد خضرته ونضارته، ودبجته الأزاهير، واختار الشاعر كلمة (رد) التى توقظ في نفسك ما كان عليه من تجرد، لا تبهج العين رؤيته، إذ سلب ثيابه، فعاد حاليا بزينته وحليته، واستخدم الشاعر كلمة (نشّر) المضعّفة الدالة على التكثير، ليصور لك هذا المعرض الحى من معارض الطبيعة، وكلمة (منمنما) توحى بدقة الوشى كأنما نسجته يد صناع، (ورق) توقظ في النفس موازنة بين نسيم الربيع وهواء الشتاء الكثيف، وفي كلمة (حتى) ما يدل على عمق الشعور برقة هذا النسيم، والتلذذ به، وفي المجيء بكلمة (أنفاس) جمعا وإيثارها على المفرد، ما يوحى بأن نسيم الربيع يجيء متقطعا، كالأنفاس، حتى لا يمل، ووصف الأحبة بالنعمة يوحى إليك بالهدوء، فليست هى بزفرات حارة، يخرجها صدر يحترق بالحب.
وهاك بيتا (١) من الشعر، قال الأصمعى عنه أنه أهجى بيت قالته العرب، وهو:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهمو... قالوا لأمهم: بولى على النار
فكل كلمة في هذا البيت تكاد تنطق بالهجاء والذم؛ فتنكير (قوم) لتحقيرهم، والإشارة إلى أنه لولا هذه الصفات التى تسمهم، لكانوا نكرة في الصحراء، لا يأبه بهم أحد، والإيحاء بأن هذه الصفات الدنيئة إذا ذكرت، وسمتهم، فصاروا بها معروفين مميزين، وكلمة (إذا) وهى تفيد الشرط، تدل على أن مقدم الأضياف إليهم إنما هو في أوقات معينة قليلة، وليس ذلك بعادة دائمة (والسين والتاء) فى استنبح للدلالة على أن الأضياف كأنهم يمضون إلى الكلب ويعرضون له، لينبح، أما هو فيغط في نوم عميق، فيلس لديه ما يحرسه، ولم ير من قبل غرباء يطرقون هؤلاء القوم، فلم يجد عملا فنام، وربما كان عدم نباح الكلب، لهزاله وضعفه من الجوع الذى يقاسيه في صحبتهم، وجاء (بالأضياف) جمع قلة، ليؤذن بأن من يقصد هؤلاء القوم عدد محدود قليل، ونسب القول إليهم في (قالوا) وهو قول مزر، للإشارة إلى سوء أدبهم، وامتهانهم لأمهم، والمجيء بلفظة (أم) وهى تستدعى أعظم ألوان التقدير، يوحى بما آلت إليه حال هذه الأم عندهم، ومن هوان وضعة، حتى صارت لديهم في منزلة أقل من منزلة الخادم، وإضافة الأم إليهم، إشارة إلى لؤمهم، ومبالغة في تحقيرهم، وإيذان بأنه ما كان ينبغى أن يعاملوها تلك المعاملة، وهى أمهم، وأنطقهم بلفظ (البول) وهو مما يثير شيئا
تتقزز منه