قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ (الشورى: ١٣).
قال «ابن القيم» (١) :«ومدارُ السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله، والاعتصام بحبله. ولا نجاةَ إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين». قال الله - عز وجل -: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران: ١٠٣).
ثم قال: «فأما الاعتصام بحبله فإنه يعصم من الضلالة. والاعتصامُ به يعصم من الهلكة.. فالاعتصام بحبل الله يوجب له الهداية واتباع الدليل. والاعتصام بالله يوجبُ له القوةَ والعدةَ والسلاحَ.
وأشار ابن مسعودإلى معنى الاعتصام بحبل الله بأنه الجماعة. وقال: عليكم بالجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإنَّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة خيرٌ مما تحبون في الفُرْقَة»
.. وقال - سبحانه -: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: ٤٦).
وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: (الجماعةُ رحمة، والفُرْقَةُ عذابٌ) (٢). وقد بَيَّنَ «الشاطبيُّ» أن الحق واحد لا اختلاف فيه فقال (٣) : قال الله - سبحانه -: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ الآية (النساء: ٥٩).
هذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف، فإنه رَدَّ المتنازعين إلى الشريعة، وليس ذلك إلا ليرتفع الخلافُ، ولا يرتفعُ الاختلافُ إلا بالرجوع إلى شيء واحد، إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلافَ لم يكن في الرجوع إليه رفْعُ تنازع.
وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ الآيةَ (آل عمران: ١٠٥). والبينات هي الشريعة، والشريعة لا اختلاف فيها.
وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: ١٥٣)، فبيّن أن طريق الحق واحد، وذلك عام في جملة الشريعة وتفاصيلها.
قال «المُزَني» - صاحب الشافعي -: «ذمَّ الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة» (٤) فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمَّه، ولو كان المتنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة..
ثمار الاجتماع:
التعاونُ، والتناصرُ. وإظهارُ أُبَّهَةِ الإسلام وشعائِره، وإخمادُ كلمة الكفر. وإصلاحُ ذات البين. ولذلك شُرِعَتِ الجماعات والجُمُعاتُ، والأعيادُ. وشُرِعَتِ المواصلات بين ذوي الأرحام خصوصاً، وبين سائر أهل الإسلام عمومًا (٥).
الأساس الخامس: لا إكراه في الدين

(١) في «مدراج السالكين» (٢: ٥٠ - ٥١).
(٢) أخرجه «أحمد» في «مسنده» (٣٠: ٣٩٠).
(٣) «الموافقات» (٥: ٦٠ - ٦١) بتصريف يسير.
(٤) بحثنا هذا مقصور على الاختلاف المذكور في القرآن الكريم الذي يراد به التضاد والتعارض، والاختلافُ المبنيُّ على الأهواء. أما اختلاف الأئمة المجتهدين من أهل السنة والجماعة الذين هدفُهم فيه الوصول إلى فهم الكتاب والسنة فهذا لا شيءَ فيه، وليس كلامُنا فيه. انظر «مجموع الفتاوى» (١٣: ١٩).
(٥) انظر «الموافقات» (٣: ٤٧٣).


الصفحة التالية
Icon