بالنقص في كل شئونه مع تصوره الكمال المطلق بعقله، فيشتدّ بها نحو غاية الكمال. وكلما ارتقى بها إلى درجة من درجاته اكتشف مزيدا من البعد بينه وبين غايته، فهو لا يزال يفرّ من النقصان لأن حبّ الكمال مغروس في كيانه، ولا يزال الكمال من فوقه لأنه من خصائص الخالق وهو مخلوق، ولأنه من صفات الربّ جلّ جلاله وهو عبد ضعيف!.
فلئن وجدت أيّها القارئ في الكتاب- بعد هذا التهذيب الذي ذكرت- بقايا من مظاهر القصور والنقص- ولعلّك تجد منها الكثير- فذلك لأني لم أستطع أن أتحرر عن سمة النقص في ذاتي، وما دان لي ذلك، وليس لي من مطمع فيه. ولئن عثرت فيه على مظاهر التقدّم نحو الكمال، فذلك من فضل الله عليّ وتوفيقه. ولقد رأيت أن العبد كلما ازداد بصيرة بضعفه وركونا إلى عبوديته زاده الله جلّ جلاله قربا إليه وتفضلا وإحسانا، وكلما ازداد نسيانا لضعفه وتعاظما في نفسه، زاده الله تعالى بعدا عنه ووكله إلى نفسه وشأنه فلم يأت منهما بطائل.
وإني إذ أشكر الله تعالى على أن ستر نقصي بتوفيقه، فإني لأشكر سائر الإخوة القرّاء الذين كانوا ولا يزالون يمنّون عليّ بملاحظاتهم واستدراكاتهم، ومن لم يشكر النّاس الذين ألهمهم الله تعالى تذكيره، لم يشكر الله الذي وفّقه للاستفادة من ذلك التذكير!..
وليس العيب أن يعترف العبد بقصوره فيتلقّى بيد الشكر نصيحة الناصحين، وإنما العيب كل العيب ما قد يتلبس به أحد رجلين: رجل يستكبر عن قبول الحق فهو يتباهى بين الناس بالباطل الذي ألصقه فيه كبره، وآخر يلتقط مظاهر النقص في الآخرين فيشهرها بين الناس على رماح من ضغينته وحقده. ينبش السيئة من القبر الذي دفنت فيه وإن محاها ألف حسنة وراءها، ويدسّ الحسنات في التراب مهما كان للناس خير في تجليتها وظهورها!..


الصفحة التالية
Icon