بالغ في تحقيق هذه الوجوه البلاغية في الكلام. غير أنه لا ينبغي أن يذهب بك الوهم إلى أن أيّ تكرار للكلمة أو الجملة يفي بهذا الغرض، وأنها وسيلة قريبة المنال لكل قادر على الكلام. فالتكرار الذي من شأنه أن يرفع بقيمة الكلام إلى الفصاحة والسمو في التعبير، له قيود وحالات معينة لا ينبغي أن يتجاوزها، وليس أي تكرير في الكلام يبعث فيه التهويل أو التجسيم؛ ولو ذهبنا نشرح الصور المحمودة لتكرار الكلام وقيود ذلك- ولو شرحا يسيرا- لطال بنا البحث وخرجنا عمّا نحن بصدده، فارجع إليه إن شئت في مظانه وأماكنه (١).
وإذا سألت عن وجه العلاقة بين التكرار وهذه الصور البلاغية، فإن خير جواب على ذلك أن أضع فكرك وذوقك العربي أمام نماذج لهذا النوع من التكرار في هذا الكتاب المبين.
فمن ذلك قوله تعالى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ ومنه قوله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ومنه قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ومن ذلك تكرار كلمة أُولئِكَ في قوله جلّ جلاله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وتكرار ما أَنْتَ في قوله: وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
وكلّ ما في القرآن من تكرار الكلمة أو الجملة من هذا القبيل وعلى مثل هذا الإشراق، وما أحسبك سائلي بعد ذلك عن وجه الجمال أو التهويل أو التصوير في هذا التكرار إن كنت على شيء من السليقة العربية وذوقها.
وأما النوع الثاني منه:
وهو تكرار المعنى، كتكرار بعض القصص والأخبار، فهو أيضا ظاهرة بارزة في كتاب الله تعالى؛ ومردّ ذلك إلى غرضين هامين: الغرض الأول إنهاء حقائق الدين ومعاني الوعد والوعيد إلى النفوس بالطريقة التي تألفها وهي تكرار هذه الحقائق في صور وأشكال مختلفة من التعبير