وحفظا للفكر أن يتشتت مع أجوائها وأحداثها فينسى مساقها الأصلي.
وهو حينما يشرح لك أحكاما في العبادات أو المعاملات أو غيرها، يسلك بك أيضا المنهج ذاته، فهو يحاذر أن تستغرق في التأمل بهذه الأحكام من حيث هي علم أو فن برأسه، كما قد يحصل مع من ينكبّ على دراسة هذه الأحكام في الكتب العلمية الخاصّة بها، فيوصلها بآيات ليست منها، فيها وعد أو وعيد أو حديث عن الآخرة أو دليل على وجود الله وعظمته، ليتنبّه الفكر، ويظلل مستيقظا للحقيقة الكلية الكبرى التي تطوف بها جميع المعاني الأبحاث.
ولو أن القرآن اتبع في عرض معانيه، هذا الذي يسلكه الناس في تآليفهم وبحوثهم، فأفرد فصولا خاصة لعرض الأحكام والتشريع، ثم ميّز فصلا آخر للقصص، وجاء بفصل ثالث في وصف المغيبات كالجنة والنار، وهكذا... -
نقول: لو درج القرآن على ذلك لفات تحقيق هذا الغرض الذي ذكرناه، ولما أمكن أن تكون هذه الفصول المتناثرة انعكاسا لمعنى كلي واحد تشترك كلها في بثّه والتوجيه إليه. ولئن أمكن أن يتذكر القارئ ذلك في تمهيد أو فصل من الفصول، فلسرعان ما ينساه عند ما يستغرق في قراءة أو دراسة الفصول الأخرى.
وإن هذا الذي نقول، ليس من الحقائق المستعصية أو الخافية على من يصدق التأمل والنظر في كتاب الله تعالى، ولكن في الناس من يقود عقله وراء غرض ما... فيمضي يصطنع مشكلة، وهو بعقله الحرّ يعلم أنها ليست بمشكلة، ولكن الغرض الذي يسعى إليه لا يدعه يحرّر عقله من الأسر فيمضي متوكلا على الشيطان ليزعم أن الأبيض أسود، والموجود معدوم والشمس مظلمة.
هؤلاء الناس هم محترفو الغزو الفكري من المبشرين والمستشرقين أولا، ثم هم أذنابهم وذيولهم الذين ينعقون بما لا يفقهون ثانيا.
وبعد، فهذه جملة خصائص الأسلوب القرآني، عرضناها عرضا سريعا، ابتغاء تصورها في إطار عام شامل. ولنا عود- إن شاء الله- بالتفصيل إلى كثير مما قد أجملناه
خلال البحوث التالية.


الصفحة التالية
Icon