ثم حاول أن تحذف كلمة واحدة من كلمات هذه الآية، وأن تستبدل بها غيرها، مما يؤدي المعنى ذاته، مستعينا باللغة وقواميسها، فلسوف ترى أن اللغة كلها أعجز من أن تأتي بألفاظ مثلها أو خير منها في الدلالة على المعنى وتصوير الأحاسيس المطلوب تصويرها. ومهما غيّرت في الآية أفسدت من بهائها ونقصت من روعتها وإشراقها. ابحث عن أيّ كلمة تقوم مقام «فالق» في أداء المعنى وتصوير المراد وتجسيم الفكرة، أو ابحث عن أي كلمة أخرى تضعها موضع «الإصباح» في دلالتها على الحركة والانبثاق وبثّ الصورة المطلوبة، أو حاول أن تأتي بكلمة أخرى مكان «سكنا» أو بكلمة أخرى أدلّ وأخصر وأجمع من هذه الكلمة العجيبة «حسبانا» فإنك لن تملك من ذلك كله إلا إفساد الآية، وتشويه دلالتها.
وربما عجزت اللغة عن اللحاق بالصورة المحلقة التي يريد المتكلم أو الكاتب أن يبثّها في خيال السامع، فاضطر أن ينزل عن بساط خياله المحلّق، لحاقا بكلمة تقف دون الصورة التي يريدها، لا يجد في اللغة سواها، فيفسد بها الصورة كلها.
غير أن القرآن لا يعجزه أن تكون الكلمة دائما في مستوى المعنى المراد، على أدق وجه، فهو يصعد باللغة إلى المعنى أو الصورة المطلوبة، ولا ينزل بالمعنى أو الصورة إليها في حال من الأحوال.
انظر حينما يصف البيان الإلهي دعوة امرأة العزيز للنسوة اللاتي يتحدثن، منتقدات، عن مراودتها ليوسف عن نفسه، إلى جلسة رائعة مترفة في بيتها، لتطلعهنّ فيها على يوسف، فيعذرنها فيما أقدمت عليه... لقد قدّمت لهنّ في ذلك المجلس طعاما ولا ريب. ولقد أوضح القرآن هذا، ولكنه لم يعبّر عن ذلك بالطعام، وهو اللفظ الذي لا بدّ أن يعبّر به أو بنظيره أيّ واحد من الناس مهما امتلك ناصية البلاغة والبيان، لم يعبّر البيان الإلهي بهذه الكلمة لأنها إنما تصوّر شهوة الجائعين من حوله، وتنقل الفكر والخيال إلى (المطبخ) بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه.
فبماذا عبّر القرآن إذن؟... وأين في اللغة الكلمة التي تؤدي معنى الطعام