ومن المعلوم كما رواه الترمذي وغيره، وكما هو ثابت في التاريخ أن الفرس انتصروا في معركة بقيادة «شربزان» على الروم، وذلك أيام كسرى.
وكان المشركون يحبّون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإيّاهم أهل أوثان.
وكان المسلمون يحبّون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب. فلما أنزل الله هذه الآية، وفيها إخبار كما ترى بأن الروم سيعودون فينتصرون على الفرس في بضع سنين، أي في أقل من عشر سنين، خرج أبو بكر يصيح بها في نواحي مكة. فقال له: أناس من قريش، فذلك بيننا وبينكم، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى... وذلك قبل تحريم الرهان. فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان. وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع؟ ثلاث سنين أو تسع سنين؟ فسمّوا بينهم ست سنين، فمضت السنوات الست قبل أن يظهر الروم، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس قال: وأسلم عند ذلك كثيرون... وفي رواية أخرى أنه لما مرّت السنوات الست ولم يظهر الروم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: ارجع فزدهم في الرهان واستردهم في الأجل، ففعل أبو بكر: فغلبت الروم في أثناء الأجل.
ومنه قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ (الفتح: ٢٧).
ومعلوم أن هذه الآية نزلت في حالة لم يكن المسلمون يتوقعون أن يدخلوا فيها مكة لطواف أو غيره، فقد رأوا من المشركين صدّا وعسفا وإيذاء، ولكن العام الذي تلا تلك الحالة جاء فصدّق هذه الآية ولاحت للناس الحكمة من الصدّ والصلح، وتبين أن كل ذلك جاء مقدمة دقيقة وعجيبة بين يدي فتح مكة سلما كما شاءه الله عزّ وجلّ. وهو ما أخبر الله عنه في آخر هذه الآية بقوله:
فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً.
ولو وضعت الأمر في ميزان التقديرات الفكرية والمنطقية، عند ما أنجز صلح الحديبية، لما رأيت أي دليل يمكن الاعتماد عليه، على أن ثمرة هذه الصلح سيكون فتح مكة عمّا قريب، وأيّ فتح؟ فتح سلمي لا تتناوش فيه السيوف، ولا يقع فيه قتال يذكر.