ضوؤه وسارت بإشراقه، وتأثرت بوحيه وأسلوبه. ومن أجل ذلك، كان مظهرا هامّا للحياة العقلية والفكرية والأدبية التي عاشها العرب فيما بعد. فكيف يتأتى أن يكون هذا الكتاب مع ذلك بمعزل عن العربية وعلومها وآدابها؟!
السبب الثاني-
أن اللغة العربية إنما استقام أمرها على منهج سليم موحد. بسر هذا الكتاب وتأثيره، وهي إنما ضمن لها البقاء والحفظ بسبب ذلك وحده. فقد كانت اللغة العربية من قبل عصر القرآن أمشاجا من اللهجات المختلفة المتباعدة، وكان كلما امتد الزمن، ازدادت هذه اللهجات نكارة وبعدا عن بعضها.
وحسبك أن تعلم أنّ: المعينية، والسبئية، والقتبانية، واللحيانية والثمودية والصفوية والحضرمية، كلها كانت أسماء للهجات عربية مختلفة، ولم يكن اختلاف الواحدة منها عن الأخرى محصورا في طريقة النطق بالكلمة، من ترقيق أو تفخيم أو إمالة أو نحو ذلك، بل ازداد التخالف واشتد إلى أن انتهى إلى الاختلاف في تركيب الكلمة ذاتها وفي الحروف المركبة منها، وفي الإبدال والإعلال والبناء والإعراب.
فقضاعة مثلا كانت تقلب الياء جيما إذا كانت ياء مشددة أو جاءت بعد العين، وكانت العرب تسمي ذلك: عجعجة قضاعة. ومن ذلك قول شاعرهم:

خالي عويف وأبو علجّ المطعمان اللحم بالعشجّ
وبالغداة قطع البرنج يؤكل باللحم وبالصيصجّ
وحمير كانت تنطق ب «أم» بدلا من «أل» المعرفة في صدر الكلمة، وكانت العرب تسمي ذلك طمطمانية حمير، ومن ذلك قول أحدهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأله:
أمن امبر امصيام في امسفر؟ يريد أن يقول: هل من البرّ الصيام في السفر؟
وهذيل كانت تقلب الحاء في كثير من الكلمات عينا، فكانوا يقولون


الصفحة التالية
Icon