عصر القرآن أسماء لا تكاد تنحطّ على معنى واضح متفق عليه. وإنما بلاغة كل جماعة أو قبيلة ما تستسيغه وتتذوقه، ولذلك كانت المنافسات البلاغية تقوم فيما بينهم وتشتد ثم تهدأ وتتبدد، دون أن تنتهي بهم إلى نتيجة، إذ لم يكن أمامهم مثل أعلى يطمحون إليه ولا صراط واحد يجتمعون عليه، ولم يكن للبلاغة العربية معنى إلا هذا الذي يصدرون هم عنه من كلام في الشعر والنثر، وهم إنما يذهبون في ذلك طرائق قددا، ويتفرقون منه في أودية متباعدة يهيمون فيها.
وهيهات، لو استمر الأمر على ذلك، أن توجد للبلاغة والبيان العربي حقيقة تدرك أو قواعد تدرس، أو قوالب أدبية تهذب العربية وتحافظ عليها.
فلما تنزل القرآن، والتفتوا إليه فدهشوا لبيانه، وسجدوا لبلاغته وسموّ تعبيره، وأجمعوا على اختلاف أذواقهم ومسالكهم ولهجاتهم أن هذا هو البيان الذي لا يجارى ولا يرقى إليه النقد- كان ذلك إيذانا بميلاد مثلهم الأعلى فيما ظلوا يختلفون فيه ويتفرقون عليه، وأصبحت بلاغة هذا الكتاب العزيز بعد ذلك هي الوحدة القياسية التي تقاس إليها بلاغة كل نص وجمال كل تعبير، ثم تعاقبت الدراسات عليه من أرباب هذا الشأن وعلمائه، فاستخرجوا منه قواعد البلاغة ومقوّمات البيان ومسالك الإعجاز فكانت هذه العلوم البلاغية التي امتلأت بها المكتبة العربية، وأصبحت فنا مستقلا بذاته. ولولا القرآن لما عرف هذا الفن ولا استقامت تلك الأصول والقواعد، ولتبدّد المثل البلاغي الأعلى في أخيلة فصحاء العرب وشعرائهم... فكيف يستقيم مع ذلك، أن يدرس هذا الفن وأصوله بمنأى عن مثله الأعلى ومصدره العظيم الأول؟
السبب الرابع:
أن متن هذه اللغة، كان مليئا قبل عصر القرآن بالكلمات الحوشية الثقلية على السمع المتجافية عن الطبع. ولو ذهبت تتأمل فيما وصل إلينا من قطع النثر أو الشعر الجاهلي، لرأيت الكثير منها محشوّا بهذه الكلمات التي وصفت وإن كنت لا تجد ذلك إلا نادرا في لغة قريش.
وإليك هذه القطعة النثرية نموذجا لكلامهم في الجاهلية، أو لكلام الأعراب الذين أدركوا الإسلام ولكن ألسنتهم ظلت على ما انطبعت عليه في نشأة الجاهلية، وهي كلمات قالها أعرابي وقف بين الناس يستجدي مالا.