وطبق إرادة إلهية جازمة. وانظر كيف عبّر البيان القرآني عن هذا بقانون إلهي شامل يعمّ شأن الخلق والكون كله، لكي تفهم أن تقلب حال المخلوق في الرحم ليس مردّه إلا إلى قانون تنظيمي للكون كله.
* ثم تأتي الآية الثانية لتضع القاعدة العامة: عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
غيب وشهادة: مبالغة عن غائب ومشاهد، فالأول منهما ما لا يقع تحت إدراك شيء من الحواس، والثاني ما يخضع لحاسّة منها. وإليهما تنقسم موجودات الكون كله. فمن أنبأك بأنه لا يؤمن إلا بما يقع تحت حسّه فاعلم أنه لا يؤمن إلا بشطر من الموجودات.
غير أن الإنسان لانحباس كيانه ضمن سلطان حواس معينة محدودة لا يدرك مباشرة من الموجودات إلا ما تبصره به هذه الحواس. والله وحده هو الذي يستوي في علمه الغائب والمشاهد.
وأنت تبصر كيف أن الآية جاءت خبرا لمبتدإ محذوف، اقتضى حذفة التهويل والتعظيم، إذ الآية الأولى من شأنها أن تملأ فكر القارئ المتدبر بعظمة الله تعالى ومظهر ربوبيته، فالمبتدأ ماثل في الذهن لم يغب عن الخاطر والبال، وتأتي الآية الثانية خبرا جديدا يؤكد ما استقر في الذهن من عظمة الإله جلّ جلاله.
* أما الآية الثالثة، فتجسد كلّا من الغيب والشهادة في مثالين، وتكشف للمتأمل كيف أن المثالين والحالين مستويان في علم الله واطّلاعه: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ.
فالمثالان الأولان، ما تسرّه من القول في نفسك وما تجهر به بلسانك؛ إن الأمرين والحالين سواء في علم الله عزّ وجلّ، إنه يسمع خلجات نفسك كما يسمع صوت كلامك. والمثالات الآخران: ذاك الذي أخفى نفسه في مكان مستور ضمن ستر آخر من ظلام الليل، وذاك الذي يسير بارزا في طريق مكشوف تحت وضح النهار، فليس بينهما من فرق إلا في حساب المخلوقات أما الله عزّ وجلّ فكلاهما في علمه سواء.