وصدّهم عن السيئ والقبيح، وهدايتهم إلى الأقوم. وأنت خبير أن الأفكار التوجيهية والأحكام التشريعية تكون نظرية بمقدار بعدها عن ظروفها وعن ارتباطها بأسبابها العملية. ولن تجد وسيلة إلى ترسيخ حكم من الأحكام في الأذهان وتنبيه الأفكار إلى مدى صلاحه وقيمته، خيرا من أن تعرضه على الناس في مجال تطبيقه وتقدمه عند الحاجة إليه. وإنها لطريقة تربوية معروفة لا تحتمل البحث والمراء.
فمن أجل ذلك قدّم القرآن الكريم إلى الناس أحكامه التشريعية ومعظم توجيهاته الأخلاقية منثورة ومقسمة على الوقائع والأحداث، أو الأسئلة والاستشكالات، حتى تمتزج هذه الأحكام مع الوقائع وتغرس في تربة التطبيق فور ظهورها وولادتها، فيكون ذلك أدعى لحفظها وأبين لقيمتها وصلاحيتها.
أما النوع الأول، وهو ما يتعلق بوصف القيامة والجنة والنار، وذكر القصص، فليس الشأن في ذلك متوقفا على ما ذكرناه، فسيّان في تبليغها للناس وإخبارهم عنها أن تنزل آياتها ابتداء أو لمناسبة وسبب.
ثانيا- أمثلة لأسباب النزول.
١ - روى مقاتل والكلبي أن رجلا من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال، فمنعه عمّه، فترافعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ، وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (النساء (١): ٢).
٢ - روى البخاري بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: عادني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان، فوجداني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ ثم رشّ عليّ منه فأفقت، فقلت كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزل قوله تعالى (٢):
(٢) البخاري كتاب التفسير: ج ٨/ ١٦٨ مع شرحه فتح الباري.