هدي الصحف الأولى، يقوم على إملاء خاص به في ذلك العصر وفيما بعده أيضا. وإنك لتجد في إملائه من أنواع الزيادات والحذف للحروف والمدود وطريقة الرسم، ما
لم يكن معهودا حتى عند كثير من القبائل العربية إذ ذاك.
إلا أنه كان يتفق في جملته مع الرسم القرشي في ذلك الوقت، ومن هنا قال عثمان رضي الله عنه للكاتبين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في كلمة من كلمات القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم (١).
ولقد ظهر تطبيق هذه الوصية، عند ما اختلف الكتّاب الأربعة في كيفية رسم «التابوت» في قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ... (البقرة: ٢٤٨)، فقد قال زيد «التابوة» وقال القرشيون «التابوت» وترافعوا إلى عثمان فقال: اكتبوا «التابوت» فإنما أنزل القرآن على لسان قريش (٢).
فقد علمت إذا، أن في الرسم القرآن في عهده الأول، ظاهرتين:
الظاهرة الأولى: أن له إملاء خاصا به من حيث كيفية كتابة الهمزة مثلا، أو الأحرف اليائية والواوية ومن حيث الزيادة والنقص وما شابه ذلك.
الظاهرة الثانية: أنه كان مجردا عن الشكل الذي يوضّح إعرابه، وعن النقط الذي يميز الأحرف المعجمة عن المهملة.
فأما الظاهرة الأولى:
فقد استمرت فيما بعد، ولم يطرأ عليها تغيير أو تحوير يذكر، فقد أخذ الناس يعتبرون الرسم القرآني رسما معينا خاصّا به ولم يجدوا ما يدعوا إلى مدّ يد التغيير إليه، بعد أن وصل إليهم بهذا الشكل صورة طبق الأصل للكتابة المعتمدة الأولى، بل لقد رأى العلماء أن الحيطة في حفظ القرآن تدعوا إلى وجوب إبقائه على شكله الأول، وتحريم أو تكريه أي تطوير كتابي فيه، تطبيقا للقاعدة الشرعية الكبرى: سدّ الذرائع.
(٢) البرهان: ١ - ٣٧٦، والإتقان: ١ - ٩٨.