اختلف العلماء في ذلك، ونقل الزرقاني أن أكثرهم على أن ذلك إنما كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأمره، فقد قال: «وهل استقرّ ذلك في الزمن النبوي أم بعده؟ الأكثر على الأول واختاره الباقلاني وابن عبد البرّ وابن العربي وغيرهم، لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر... حتى انضبط الأمر وتدربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة، فعارض جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن مرتين في السنة الأخيرة واستقر الأمر على ما هو عليه الآن فنسخ الله تلك القراءة المأذون فيها، بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس (١).
وعلى هذا، فقد كان إقدام عثمان رضي الله عنه على جمع الناس على حرف قريش ومنع القراءة بكل حرف آخر سواه مما يخالف خط المصحف المعتمد، وتحريق المصاحف الأخرى المخالفة له- كان كل ذلك منه باستناد إلى هذا الذي رواه الزرقاني عن أكثر أهل العلم من استقرار القرآن كتابة وقراءة، في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جزء من الأحرف السبعة، وهو الذي كانت كتابة القرآن به.
وما أجمع الصحابة ومن بعدهم مع عثمان على صنيعه، إلا استنادا إلى أن الأمر كان قد استقر على ذلك في آخر عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأمر منه.
ويبقى بعد ذلك السؤال التالي: ولكن جمع عثمان الناس على حرف واحد لم يوحّد القراءات توحيدا تاما، بل بقي الناس مع ذلك يختلفون في القراءة بأوجه من النطق والأداء ضمن ما يتحمله الحرف الواحد المعتمد كتابة، منذ عهد الرسول، والذي أصبح معتمدا في الكتابة والقراءة معا في عهد عثمان!...
والجواب أن هذه القراءات المختلفة التي ظل الناس يقرءون بها حتى بعد عهد عثمان، إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وإنما سوغ القراءة بها أنها موافقة لخط عثمان الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه (٢).
(٢) الإبانة لمكّي بن طالب ص ٣.