فقد ذكر في هذه الرواية أربعة، غير أنه ذكر أبيّ بن كعب بدلا من أبي الدرداء في الرواية الأولى. وهو صادق في كلتا الروايتين، لأنه لا يعقل أن يكذب نفسه، فتعيّن أنه يريد من الحصر الذي أورده الحصر الإضافي، فمرة ذكر أبا الدرداء، ومرة ذكر أبيّ بن كعب، وهذا التوجيه وإن كان بعيدا، إلّا أنه يتعين المصير إليه جمعا بين هاتين الروايتين، وبينهما وبين روايات ذكرت غير هؤلاء. ومن هنا قال المازري: لا يلزم من قول أنس- رضي الله عنه-: (لم يجمعه غيرهم). أن الواقع كذلك في الأمر نفسه، لأنه لا يمكن الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في الأمصار، ولم يتمّ له ذلك إلّا إذا كان قد لقي كل واحد منهم، وأخبر عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا في غاية البعد في العادة (١)، وكيف يكون الواقع ما ذكر، وقد جاء في صحيح البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خذوا القرآن عن أربعة: عن عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب» (٢). والأربعة المذكورون منهم اثنان من المهاجرين وهما الأولان، واثنان من الأنصار وهما الأخيران. اهـ.
ولعل مراد المازري بهذا نفي الحصر الحقيقي وتوجيه الحصر الإضافي، ويؤكد ذلك حديث آخر رواه ابن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي قال: (جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبيّ بن كعب، وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري).
وهناك أجوبة كثيرة عن هذه الشبهة، وقد أجاب الإمام أبو بكر الباقلاني بأجوبة ثمانية، ولكن ابن حجر ضعفها، وغيره فندها.
ونكتفي في النهاية بكلمة للمازري حيث يقول: (وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه، فإنا لا نسلّم حمله على ظاهره، سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه، لكن لا يلزم من كون كل واحد من الجم الغفير لم يحفظه كله، أن لا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير.

(١) فتح الباري ٩/ ٦٦ شرح الحديث (٥٠٠٤).
(٢) صحيح البخاري ح (٣٨٠٨).


الصفحة التالية
Icon