وبهذا صار التهجد تطوعا من الرسول بعد أن كان واجبا عليه وفي هذا تقول عائشة فيما رواه مسلم عنها:
(فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول السورة- تقصد سورة المزمل- فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حولا، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة) (١).
ب- ومثال آخر على منسوخ الحكم دون التلاوة:
ما ذكره المفسرون في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة: ١٢].
فقد نسخ بقوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [المجادلة: ١٣].
ج- ومثاله أيضا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ.. [النساء: ٤٣].
فهذه الآية قد حرّمت شرب الخمر في أوقات الصلاة، ثم نزل تحريم الخمر قاطعا فقال تعالى:.. إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.. [المائدة: ٩٠].
هذا النوع- منسوخ الحكم دون التلاوة- هو المتفق عليه، ووجوده في القرآن شاهد عيان، فآياته ما زالت تتلى في كلّ وقت وكلّ حين.
وفي وجود الآيات وانتفاء التكليف بها فائدة عظيمة، وهذا من تمام الحكمة الربانية أن تبقى الآيات القرآنية التي نسخ حكمها تقرأ بألفاظها إلى يوم الدين، لترى فيها سائر أجيال هذه الأمة كيف تم إعداد جيلها المثالي الأول، وما هي الأحكام المرحلية التي احتاجت إليها الجماعة الإسلامية الأنموذج في أطوار نشأتها وتدرجها، وكيف تم قطع علائقها بالجاهلية. وربطت بأسباب الحياة الإسلامية

(١) صحيح مسلم. كتاب صلاة المسافرين وقصرها. باب جامع صلاة الليل ١/ ٥١٢ مختصرا ح (٧٤٦) (١٣٩).


الصفحة التالية
Icon