وأخيرا فقد استدلّ بالدليل الرابع ودخل عالم الحيوان فقال:
إننا نشاهد بعض الحيوانات الدنيا تأتي بعجائب بعض الأنظمة والأعمال.
وإذا صح هذا في عالم الحيوان فهو يكون أتم من ذلك ما يكون بطريق الوحي ويضرب لك المثل بالحيوان الذي اسمه «أكسيكلوب» (١).
وهكذا استرسل كما بدا له- صاحب المناهل- في ذكر الدليل تلو الدليل، وأراد أن يدل على صحة رأيه ووجاهته بقوله: إنه قد رأى هذه التجارب بعينه وسمعها بأذنه. فهذا الأمر محسوس ملموس.
أقول: هذا التدليل بعيد عن نهج هذا الدّين، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام ما أقنع أهل زمنه إلا بما أرشده الله إليه، أما أن يلتمس لكل حادثة غيبية دليلا حسّيا، أو يدلل على وقوعها أو يقربها إلى الذهن بأدلة ماديّة محسوسة فهذا ما لم يكن، بل حصل العكس فإن أبا بكر الصديق حين حدّثه كفار قريش بقصة الإسراء والمعراج، وأرادوا أن يشككوه في هذه القضايا الغيبية لم يفلحوا في ذلك، وأخذوا منه الجواب الشافعي النابع من الإيمان الصادق، قال: إن قالها- أي محمد صلّى الله عليه وسلم- فقد صدق.
إن الاستدلال بالقضايا العلمية على الحقائق الغيبية هو نهج المدرسة العقلية في التفسير، التي أرسى قواعدها الشيخ محمد عبده، الذي فسر قوله تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: ٣ - ٥].
قال ليقرب هذه المعاني القرآنية للعقول الأوروبية: إن الطير الأبابيل: هي الذباب، وفسر (حجارة من سجيل) بميكروب الجدري، كما فسر (الجن) بالميكروب الضار، والملائكة بالميكروب النافع. وهذا تفسير غريب وتأويل بعيد، وقد ردّ عليه صاحب الظلال بكلام مفيد يحسن الرجوع إليه.
وقد أعجبني الردّ على ادعاء إثبات الوحي بالتنويم إذ يقول قائل:

(١) مناهل العرفان ١/ ٦١ - ٦٢ هذا القياس أكثر فسادا وأبعد من القياس السابق، فالسابق بين ملك ونبي والإنسان المنوم والمنوم وأما هنا فقياس مع حيوان الأكسيكلوب.


الصفحة التالية
Icon