فالصحابة رضوان الله عليهم قد شاهدوا الوحي ونزوله، وقد بلّغهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان ينزل عليه من الآيات، وقد بلغونا بما بلغهم، بل أخبرونا بالمكان والزمان الذي نزلت فيه الآيات، بل بلغت بهم الدقة أن أخبرونا بما نزل منه ليلا أو نهارا، وما نزل منه في سفر أو في حضر، في سهل أو في جبل، بالصيف أو بالشتاء، وما نزل بيت المقدس والجحفة والطائف والحديبية، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
(والله الذي لا إله غيره، ما نزلت آية في كتاب الله، إلّا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت) (١).
وروي مثل ذلك عن وهب بن عبد الله بن أبي الطفيل، قال: شهدت عليا رضي الله عنه يخطب ويقول:
(سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء إلّا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلّا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل).
فأمر معرفة المكي والمدني سماعي عن الصحابة رضوان الله عليهم لأنهم شاهدوا الوحي ونزوله، وعرفوا مكانه وزمانه، وقولهم في ذلك له حكم المرفوع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن ذلك مما لا مجال للرأي فيه، فإذا صح القول عن الصحابي قبل ولا يعدل عنه إلّا بدليل أقوى يقتضي هذا العدول.
وقد ألحق الباقلاني قول التابعي فجعله كقول الصحابي، لأن كبار التابعين قد شاهدوا من شاهد نزول الوحي، ونقلوا إلينا أقوالهم، فإذا ما أخبرونا بأن هذه الآية مكية قبل قولهم، وقد قبل الإمام الشافعي مراسيل كبار التابعين في الحديث، أفلا يقبل إخبارهم بمكان نزول الآيات.
سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال: (نزلت في سفح ذلك الجبل)، وأشار إلى سلع، فإخبار عكرمة بذلك لا يكون إلّا إذا سمعه من الصحابة الذين عرفوا هذا المكان، فأخبروه بما رأوا وسمعوا، ولا أدل على ذلك من أن ابن مسعود رضي الله عنه على الرغم من القول الذي نقل عنه في معرفة زمان ومكان النزول، إلّا أن ما

(١) أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب فضائل القرآن. باب القراء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ح (٥٠٠٢).


الصفحة التالية
Icon