القسم الأول: ما ثبت بنقل متواتر، كنقل القرآن، فهل يجوز أن ينسخ القرآن بمثل هذا؟ حكى فيه شيخنا علي بن عبيد الله روايتين عن أحمد، قال: والمشهور أنه لا يجوز (١)، وهو مذهب الثوري والشافعي.
والرواية الثانية يجوز؛ وهو قول أبي حنيفة، ومالك (٢) قال: ووجه الأولى؛ قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: ١٠٦] والسنة ليست مثلا للقرآن، وروى الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلامي لا ينسخ القرآن، ينسخ بعضه بعضا» (٣).
ومن جهة المعنى؛ فإن السنة تنقص عن درجة القرآن فلا تقدم عليه.
ووجه الرواية الثانية؛ قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: ٤٤] والنسخ في الحقيقة بيان مدة المنسوخ، فاقتضت هذه الآية قبول هذا البيان، قال: وقد نسخت الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: ١٨٠] بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا وصية لوارث» (٤). ونسخ قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة: ١٩١] بأمره عليه الصلاة والسلام، أن يقتل ابن خطل، وهو متعلّق بأستار الكعبة (٥).
ومن جهة المعنى؛ أن السنة مفسرة للقرآن، وكاشفة لما يغمض من معناه، فجاز أن ينسخ بها.
والقول الأول هو الصحيح، لأن هذه الأشياء تجري مجرى البيان للقرآن، لا

(١) انظر «الواضح في أصول الفقه» (١/ ٢٨٨) و (٤/ ٢٥٨ - ٢٥٩) و «العدة» لأبي يعلى (٣/ ٧٨٨) و «التمهيد في أصول الفقه» للكلوذاني (٢/ ٣٨٢) و «المحصول» (٣/ ٣٤٧) و «الإحكام» للآمدي (٣/ ١٥٣).
(٢) «الواضح في أصول الفقه» (٤/ ٢٥٩) و «أصول السرخسي» (٢/ ٢٦٧).
(٣) أخرجه الدارقطني (٤/ ١٤٥) وابن عدي في «الكامل» (٢/ ١٨٠) من طريق: جبرون بن واقد، نا سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله به مرفوعا.
قال الذهبي في «ميزان الاعتدال» في ترجمة جبرون بن واقد رقم (١٤٣٧): «متهم، فإنه روى بقلّة حياء عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: «كلام الله ينسخ كلامي». وهذا الحديث موضوع».
وحكم عليه بالوضع المحدث الألباني في «المشكاة» (١/ ٦٨/ ١٩٥).
(٤) أخرجه أحمد (٥/ ٢٦٧) وأبو داود (٢٨٧٠) و (٣٥٦٥) والترمذي (٢١٢٠) وابن ماجة (٢٧١٣) وغيرهم، من حديث أبي أمامة الباهلي. وهو حديث صحيح، وفي الباب عن غيره من الصحابة تخريجها في «نصب الراية» (٤/ ٤٠٣).
(٥) انظر «صحيح البخاري» (١٨٤٦، ٣٠٤٤، ٤٢٨٦، ٥٨٠٨) و «صحيح مسلم» (١٣٥٧).


الصفحة التالية
Icon