القرآني هنا يعتمد على التجاوز الزمني في الدلالة، ليعبر عن المستقبل بصورة الحاضر.
كذلك يلاحظ في قوله تعالى على لسان نوح: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً نوح: ٢٦ - ٢٧، فالتجاوز الزمني هنا في فاجِراً كَفَّاراً يتناسق مع دعوة نوح قومه ألف سنة إلا خمسين، وهذا الزمن الممتد في الدعوة، اقتضى هذا التجاوز الزمني الممتد أيضا إلى الزمن المستقبل في الصورة المرسومة.
وإذا كانت نتائج الدعوة قليلة لا تكاد تذكر، فإن الدعاء يبدو في سياقه مقبولا، فكأن التجاوز الدلالي جاء ليثبت هذا المعنى، ويؤكّده، وهو إعراض قومه، وعدم إيمانهم بالدعوة على الرغم من هذه الجهود المبذولة في هذا الزمن الممتد. وهكذا يتحد الزمن الماضي بالمستقبل في صورة الإعراض لقوم نوح وكفرهم.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ الذاريات: ٢٨، وقوله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ الصافات: ١٠٠ - ١٠١.
والتجاوز الزمني هنا في الدلالة المجازية، يتواصل مع الزمن الممتد في السياق، فإبراهيم قد كبر في السن، ومن شأن الوالد الكبير أن يفكر بمصير ولده الصغير، فاقتضى السياق التجاوز الزمني في الدلالة المجازية لطمأنة إبراهيم عليه السّلام على ولده بأنه سيكبر، ويبلغ مبلغ الرجال ويتصف بالعلم والحلم.
وقد تكون العلاقة السياقية واضحة في الدلالة المجازية، كقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ البقرة: ١٩٤، فالعلاقة هنا بين الجزاء والاعتداء واضحة في السياق، وقد عبر عن الجزاء بالاعتداء ليبرز أهمية محاسبة الظالم، وعدم التهاون معه، كما يظهر الجزاء منسجما ومتناسقا مع السبب الموجب له.
وفي قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً غافر: ١٣ تشعر الدلالة المجازية ل رِزْقاً بقوة السبب وهو الغيث المرتبط بأمر الله سبحانه، ولا تدخّل للبشر في حدوثه. وإذا كان الرزق مرتبطا به، ومتوقفا عليه، فإن الدلالة المجازية توحي بضرورة التعلّق بالله، واللجوء إليه، لأن بيده مصدر رزق الإنسان.


الصفحة التالية
Icon