تفسير قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)
قال تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [الكهف: ٥٦].
فليست من وظيفة المرسلين أن يأتوا بالعذاب ولا بالجنة والرحمة، فالعذاب والرحمة بيد الله، وهو الذي يعذب من شاء عندما يشاء، ويرحم من شاء عندما يشاء، وإنما وظيفة النبيين والمرسلين هي التبشير والإنذار، قال تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [الكهف: ٥٦]، أي: مبشرين المطيعين بالرضا وبالجنة، منذرين الكافرين الجاحدين بالغضب والنار، وبعد ذلك فالله إن شاء عذب في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى، وإن شاء أخر العذاب إلى يوم القيامة؛ لتزاد فرصة هؤلاء، وتزداد حجة الله البالغة عليهم، ويزدادوا عناداً وكفراً وجحوداً، إلا إذا أكرم الله أحدهم ممن لم يكفر جحوداً وهزءاً وسخرية، ولكنه كان ثقيل الطبع، بليد الفهم، يحتاج إلى زمن ليفهم وليعقل، فهؤلاء طول الزمان قد يفيدهم، ومن هنا فإن قريشاً لم تؤمن إلا في السنة الثامنة من الهجرة عندما فتح ﷺ مكة المكرمة، فلم يسلموا إلا بعد ثماني عشرة سنة من الرسالة المحمدية، وكثير منهم ممن ضل وأضل -وكان أكثرهم لا يزال حياً- تاب إلى الله، وسموا الطلقاء ومسلمة الفتح، أي: عندما فتح رسول الله مكة عليه الصلاة والسلام وجمعهم وقال لهم: (يا معاشر قريش! ماذا ترون أني صانع بكم؟).
وما الذي يخطر ببالهم وهم يعلمون أنهم طالما آذوا رسول الله ﷺ وشتموه وأخرجوه وجرحوه، وقتلوا أصحابه نساءً ورجالاً، واضطهدوهم، وتآمروا على صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام؟ وإذا بالنبي الكريم الرءوف الرحيم -كما وصفه الله جل جلاله- يقول لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
فعفا عنهم عن مقدرة، ولا يكون العفو إلا عن مقدرة، وبعد هذا العفو آمن الكل، ولم يقبل من قريش إلا الإسلام أو السيف، فآمنوا.
فبقيت طائفة إلى زمن تعد من المؤلفة قلوبها ممن لم يثبت الإيمان بعد في قلبها ثبوت الراسخين، وثبت الإسلام في قلوب الكثيرين، ومنهم عكرمة بن أبي جهل، وكان قد فر من رسول الله ﷺ عندما فتح رسول الله مكة، وآمنت زوجته برسول الله ﷺ ولم تلحق به، وإذا بـ عكرمة يريد الفرار إلى أرض الحبشة، وإذا بالسفينة التي يركبها تضطرب وتموج ويرى الأمواج وكأنها الجبال يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، وإذا بربان السفينة يقول للراكبين: لا يفيد الآن إلا دعاء الواحد، فادعوا ربكم ولا تشركوا به أحداً، وإلا فنحن هالكون.
وإذا بـ عكرمة وقد أراد الله به خيراً قال: إن كان لا يفيدني إلا الواحد وأنا في البحر فمن باب أولى ألا يفيدني إلا هو وأنا في البر، علي لله نذر إن سلمني الله فلم أغرق أن أذهب إلى مكة وأضع يدي في يد محمد، فسأجده رحيماً وشفيقاً ومستغفراً لي من ذنوبي، وهكذا كان.
فجاء إليه عليه الصلاة والسلام وقص عليه قصته، فقبل إيمانه وإسلامه، وقال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: (علي عهد لله ألا أدع مكاناً ولا موقعة رفعت فيها السيف عليك وعلى الإسلام إلا رفعتها على عدوك وعلى عدو دينك يا رسول الله! أنا سيف من سيوفك فاضرب بي من شئت).
فأكرم الله عكرمة فكان من الفاتحين، وشارك في فتوح الشام والعراق وفارس، وأسلم وحسن إسلامه.
وهذه من فوائد إطلاق سراح أسرى غزوة بدر، فقد خرج من هؤلاء الكافرين مؤمنون بحق وصدق رفعوا سيوفهم وأقلامهم لله صادقين داعين لدين الله.
وكـ عدي بن حاتم الطائي المضروب به المثل في الكرم والنبل سيد آل طيء، فقد أسرت عصماء أخت عدي، وفر عدي مع عياله إلى الشام، فأتي بها مع الأسرى في معركة من معارك بلاد طيء في أرض اليمن، وإذا بها ترى رسول الله ﷺ فتقول له: يا محمد! أنا بنت سيد قوم كان يضرب به المثل في الكرم والجود، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا ابنة حاتم الطائي، فأكرمها رسول الله ﷺ وأدخلها داره، ثم ذهبت إلى أخيها وقد فر إلى الشام، فأتى أخوها وكان متنصراً من قبل، فآمن وأسلم وحسن إسلامه، وكان من الدعاة إلى الله وممن أبلى البلاء الحسن.