تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة)
قال تعالى: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٢٢].
هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، والعشر الآيات السابقة نزلت في ابنته أم المؤمنين عائشة.
وذلك أنه كان لـ أبي بكر ابن خالة اسمه مسطح بن أثاثة، وكان مسطح من المهاجرين الأول، وممن شارك في معركة بدر، والمشاركون في معركة بدر لهم فضل كبير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اصنعوا ما شئتم).
وكان مسطح قد تكلم في هذا القذف، وجلد مع من جلد، والذين جلدوا أربعة: ثلاثة رجال وامرأة، هم مسطح وحسان بن ثابت، وعبد الله بن أبي ابن سلول، وحمنة بن جحش.
وكان مسطح فقيراً، وكان الذي ينفق عليه أبو بكر، فلما خاض في حديث الإفك وبلغ ذلك أبا بكر أقسم بالله ألا ينفعه، وأن يوقف النفقة عليه، ولكن الله جل جلاله أكرم من عباده، وأرحم بعباده منهم بأنفسهم، والله جل جلاله جعل لكل شيء حداً، والعقوبة لها حد لا ينبغي تجاوزه.
والله رأى في الجلد كفاية، لكن أبا بكر بقي معاقباً له وهو فقير مدقع، فاجتمع على مسطح الفقر والبؤس مع الجلد والمهانة، وأصبح لا يجد قوت يومه، ونفر منه الناس كما نفروا ممن قذفوا أم المؤمنين، وعندما رأوا أبا بكر قد نفر منه، وفعل ما فعل، قالوا: هذا لا خير فيه، فقد غدر بفضل أبي بكر عليه، وغدر برسول الله في عرضه، ولم يعرف لقيمة الإحسان والإفضال فائدة، وإذا بالله الكريم ينهى أبا بكر رحمة منه وفضلاً، فقال: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى﴾ [النور: ٢٢].
وأولو الفضل: هم أصحاب الفضل والإحسان.
(لا يأتل): من الإيلاء، وهو اليمين والحلف، أي: لا يقسم أحدكم ممن تفضل بالإحسان وبالصدقة وبالعطاء ممن أوسع الله عليهم وكانوا ذوي غنىً وذوي سعة في الحياة، لا يأتل ولا يحلف على ألا يفعل خيراً، وألا ينفق على المحاويج وعلى الأقارب، ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾ [النور: ٢٢].
قوله: ﴿وَالسَّعَةِ﴾ [النور: ٢٢] أي: ممن وسع الله عليهم، وإذا أوسع الله فأوسعوا.
﴿أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى﴾ [النور: ٢٢] أن يعطوهم من إفضالهم وسعتهم وخيرهم، ومما رزقهم الله به ووسع عليهم، وكان مسطح من ذوي القربى له، فقد كان ابن خالة له، ولذا قال: ﴿أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ﴾ [النور: ٢٢]، وكان مسطح مسكيناً.
﴿وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النور: ٢٢]، وكان مسطح مهاجراً في سبيل الله، بمعنى أنه لم يهاجر لمال، ولا لجاه، ولا ليخدمه أو ينفق عليه قريبه وابن خالته أبو بكر، ولكنه هاجر في سيبل الله، فترك الأهل في مكة، وترك المال، وترك السعة، وجاء للمدينة بنفسه، مهاجراً لله ولرسوله، فاراً بدينه ممن اضطهده من كفار مكة، فقال الله لـ أبي بكر: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا﴾ [النور: ٢٢].
فهم قد أذنبوا حقيقة، ولكن أين مزية العفو؟ ﴿وَلْيَصْفَحُوا﴾ [النور: ٢٢] أي: ليصفحوا عنهم ويتجاوزوا عن سيئاتهم.
﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور: ٢٢] كان يتحدث بضمير الغيبة، وإذا بالكريم عندما أراد أن يتفضل على أبي بكر بالمغفرة أصبح الخطاب خطاب مواجهة: ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور: ٢٢].
وإذا بـ أبي بكر يتلو عليه رسول الله ﷺ الآيات ساعة نزولها عليه، فكان جوابه: بلى يا رب! أحب أن تغفر لي، ومن اليوم وإلى لقاء الله سأنفق على مسطح، وسأعود عليه بإحساني ونفقتي، والله إني أحب أن تغفر لي.
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٢٢]، فالله يغفر الذنوب جميعاً، ويغفر الشرك والكفر، فالإسلام يجب ما قبله، ألا تغفرون أنتم كلمة قد قيلت كانت في الأصل فساداً وكانت نتيجتها إفضالاً كبيراً، فقد كانت إشادة بآل أبي بكر وبيت أبي بكر وبنت أبي بكر، إلا يكفي أبو بكر ما نزل في حق ابنته من تبرئة ومن تطهير وتزكية أصبحت وحياً يتلى إلى يوم القيامة، وفيم إذاً إيقاف النفقة وإيقاف الإحسان؟! سئلت السيدة عائشة: ماذا كان خلق رسول الله؟ قالت: القرآن.
فالله غفور فكان محمد غفوراً، والله رحيم فكان نبينا رحيماً، فكان يرحم أعداءه، ويعفو عن أعدائه، وحسان مع ما صدر عنه كان ينصب له رسول الله منبراً في المسجد، ويقول له: اهج الكفار فداك أبي وأمي.
وكان يقول له: (اهجهم وروح القدس معك) أي: جبريل، وكان يقول: (والله لكلامك أشد عليهم من وقع النبال) مع كون حسان صنع ما صنع، وكان جباناً لا يستطيع القتال، فقد كانت المعركة شديدة في غزوة الخندق، فكان حسان مع الضعاف من الشيوخ والأطفال والنساء فوق حصن، وإذا بيهودي أخذ يحيط بالحصن عله يجد غرة فيدخل الحصن، ويأسر ويقتل ويسرق، وإذا بـ صفية عمة النبي ﷺ تراه فقالت: يا حسان! هذا يهودي يطوف بالحصن وما أراه إلا يريد أن يجد غرة، أو يجد منفذاً ليدخل، قم على السطح وارمه بهذه الصخرة، فقال لها: لو كنت أصلح لذلك لما بقيت معكم! وإذا بها تقف على السطح وتأخذ الصخرة وترميها على اليهودي، فقتل، فقالت له: يا حسان اذهب فخذ سلبه، فالنبي يقول (من قتل قتيلاً فله سلبه).
قال لها: أتعلمين حالي، أنا لا أستطيع أن أمد يدي إليه وهو ميت، قالت: أنا لم أتركه إلا لأني امرأة وهو رجل، قال: لا أريد سلبه! لكن مع ذلك كان لسانه -رضي الله عنه وعفا عنه- كما قال ﷺ عنه: (أشد عليهم من النبال)، وله ديوان شعر مطبوع منتشر كله من غرر الشعر وفصيحه وبليغه.
هذه الآية الكريمة تزيدنا طمعاً في الله وطمعاً في رحمته وفي مغفرته، وتدل على العناية الإلهية بعباده الموحدين المؤمنين، فإنه مع شدته ومع قوارعه لهؤلاء الذين قذفوا وقالوا ما قالوا، عاد فرحمهم، ودعا عباده لرحمتهم، وبقي قابلاً ومعترفاً لـ مسطح بجهاده وسماه مجاهداً في سبيل الله، وحض أبا بكر على الإحسان إليه، وعلى العفو عنه، وعلى الصفح عن ذنوبه، وهكذا ينبغي، فهذا أدب لنا، ونحن كثيراً ما نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فكان سبب نزول الآية أبا بكر، أما بعد ذلك فهي خطاب لكل المسلمين، وكثيراً ما يسيء إلينا أقارب وأباعد، وبعضهم يبالغ في الأذية، ولكن مهما تكن الأذية فليس هناك أبلغ من أذية مسطح لـ أبي بكر، وطعنه في شرف ابنته وعرضها، فينبغي الاقتداء بـ أبي بكر في العفو والصفح.
وقد كان غفرانه وصفحه عن مسطح سبب مغفرة الله له، ووعد الله بالمغفرة، ومن أوفى بعهده من الله، فبهذه الآية وصريحها أن الله قد وعد أبا بكر بالمغفرة.
والرسول قد بشر أبا بكر بالجنة، وهو في طليعة العشرة المبشرين بالجنة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، ومعنى ذلك أن الله يدعو كل المؤمنين ممن قطعوا رفداً، أو أوقفوا إحساناً، أو ظلوا على حقد وعداوة لشخص ما، في أي ذنب ما، أنه إذا أدب وإذا عذب، وإذا لقي جزاءه من السماء أو الأرض، أن يعفى عنه.
فلنكن أيضاً غفورين رحيمين بأعدائنا، ولكن لكل شيء حد، فإذا تجاوز في الأمر خرج عن معناه، فالمغفرة للتائبين، والرحمة للنادمين، والصفح عن المسلمين، وأما أن تأتي إلى كافر أو منافق استذلك، وأخذ بلدك وقتلك، وهتك عرضك، وحرص على أن يأخذ بلادك، فتأتي أنت وتقف على قبره وتحني رأسك، وتقبل خده، وتقبل يده، وترفع رايته في بلدك، وتجري حول الاستسلام له، وتقول: هذا صفح، فإننا نقول: حاش الله، ليس بذاك، ولا صله له بهذا البتة.
ولكن الصفح عن المؤمنين، والعفو عن التائبين، وعن النادمين كما حصل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه لـ مسطح.
وأيضاً هذا قد علم من القرآن والسنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (من حلف يميناً ورأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير).
أي: من أقسم على خير ألا يفعله، أو على قطع رحم، فهذه اليمين في الأصل لا تجوز، فهذا يجب عليه أن يحنث في يمينه، ويكفر عنها بصيام ثلاثة أيام أو إطعام عشرة مساكين، ويأتي الذي هو خير، فيأتي صلة رحمه، وينفق على من أقسم ألا يحسن إليه.
فـ أبو بكر كان قد أقسم، والله تعالى أمره أن يعود عن يمينه، وأن يعود عن قسمه، وأن يغفر لـ مسطح، وأن يصفح عن مسطح ويعود للإنفاق عليه، فحنث أبو بكر في يمينه وكفر عنها، وأتى الذي هو خير بأمر الله، بل وبتحريض الله له، وتشجيعه له ووعده بالمغفرة: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّع