تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم)
بعد ذكر أحكام الزناة وما أمر الله به من جلدهم مائة جلدة، وتغريب عام إن كانوا أبكاراً، وبالرجم حتى الموت إن كانوا محصنين رجالاً ونساء، وبعد أن أصدر حكمه جل جلاله على القذفة بثمانين جلدة، وأن يحضر عذاب الجميع طائفة من المؤمنين، وبعد ذكر حكم اللعان فيما إذا وقع الاتهام من الرجل لزوجته وليس هناك شهود، فيلاعنها وتلاعنه، ويدرأ اللعانُ الحدَّ عن الرجل وعن المرأة، ثم ذكر بعد سلسلة من الآيات في تقريع الله لمن قذف السيدة عائشة أم المؤمنين، ثم تأتي هذه الآيات التي يعلم الله فيها المسلمين ويؤدبهم بآداب المنازل ودخولها: فكيف يستأنسون؟ وكيف يُسَلِّمون؟ وكيف يكونون بشراً لهم خلق وحضارة، ولهم نبل، فلا يكونون كالحيوانات يدخل هذا على هذا، فقد يجد في الدار زوجته أو أمه أو أخته وهي على حالة لا تريد أن يراها عليها ابنها ولا أخوها ولا أي قريب لها، فقال جل جلاله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور: ٢٧].
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [النور: ٢٧] الخطاب للمؤمنين، وعلى عادة كتاب الله أن فروع الشريعة يخاطب بها المؤمنون، لأن الأصل وهو من الإيمان قد تم، وبعد الأصول تأتي الفروع، فإذا كان الخطاب في الأصول هو في الدعوة للتوحيد وللإيمان بالله ورسله وكتابه فإنه يقال: يا أيها الناس، لكن الخطاب هنا للمؤمنين بعد أن آمنوا بنبيهم، وامتثلوا ما أمر به من أركان الإسلام: من شهادة، وصلاة، وزكاة، وصيام، وحج.
وهنا يعلمهم الله الآداب والرقائق، ويعلمهم كيف يتصلون ويتعاشرون ويتآخون ويتعارفون، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ [النور: ٢٧] أي: إذا دخلتم بيوتاً -جمع بيت ومسكن- ليست ببيوت لكم فلا تدخلوها بلا إذن ولا استئذان ولا سلام ولا كلام؛ فهذا ليس من آداب المسلمين، وليس ذلك خلقاً لائقاً بهم، ولا يعرف هذا الخلق إلا اليهود ورعاع الناس، فتجد الرجل منهم يدخل على بيت الرجل وعلى عياله، حاضراً كان أو غائباً بلا استئذان ولا سلام، ولا يفعل هذا مؤمن، ولا يفعله ذوو خلق، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ [النور: ٢٧].
ومعناه: إذا كانت البيوت بيوتكم فلا حاجة إلى الاستئذان، وإن كان هذا بالغالب الأعم، ولكن مع ذلك أمروا إذا دخلوا بيوتهم أن يقولوا كلمة تشعر بدخولهم، كالتكبير والنحنحة أو كلمة تشعر بدخوله؛ لأنه قد تكون في البيت أمه أو أخته أو ابنته على حالة لا يليق بالأب أن يراها ولا بالولد ولا بالأخ، أيريد أن يرى الولد أمه عريانة؟ أيريد أن يرى الأخ أخته عريانة؟ أيليق ذلك في دين المسلمين وفي أخلاقهم؟! إذاً: الأذن والاستئذان لا بد منه.
بل أكثر من ذلك أن النبي ﷺ حتى في بيته كان إذا غاب في غزاة أو معركة أو سفر أو حج أو عمرة، ورجع في تلك الليلة فإنه لا يدخل البيت، بل يبقى في ضاحية البلدة، ويأمر من معه ألا يطرقوا نساءهم ليلاً، ويقول: ليعلموا ذلك ولكي لا تتخونوهن.
وقد يخطر بالبال أنه جاء مفتشاً ليرى ماذا صنعت، فإذا حصل سوء الظن بين الزوج والزوجة شقيت الحياة وما سعدت.
وكان يقول (حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة).
فقوله: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ [النور: ٢٧] أي: تستأذنوا، ثم بعد الإذن تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ وبّين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه مرة طارق يريد الدخول للبيت دون سلام، وإذا بالنبي يأمر خادمه أن يقول له: استأنس أولاً، قل: أأدخل؟ ثم بعد أن يؤذن لك قل: السلام عليكم، فعمل ذلك فأذن له، ودخل وقال: السلام عليكم.