عورة الرجل وعورة المرأة
عورة الرجل مع الرجل جميع ما بين السرة والركبة وما سوى ذلك ليس بعورة، وعورة المرأة جميع بدنها مع الأجانب سوى العينين والوجه والكفين كما نقلنا في الرواية عن الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، ولكن حتى الرجل لا يليق به أن يجلس بدون سبب مكشوف الصدر والظهر من السرة فما فوق، وأن يصلي كذلك، وأن يخرج للأسواق كذلك، فلو فعل لشُكَّ فيه أن في عقله شيئاً، والمرأة كذلك لو جلست مع النساء وعورتها هكذا لقيل عنها: جنَّت.
أما المحارم فقد أباح الشارع أن تظهر المرأة بمحاسنها الخارجية والخفية، والمحاسن الخفية: الأقراط والعنق واليدان والرجلان وبقية الزينة، وليس كشف اللحم وكشف الصدر وكشف الظهر وكشف السيقان وما إلى هذا، فقال تعالى: (ولا يبدين زينتهن) فعمم ثم خصص وفصل، فقال: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) البعولة: جمع بعل: وهو الزوج، فلا يظهرن زينتهن إلا للأزواج، وللرجل أن يرى جميع بدن امرأته ولو عريانة، لكن الفقهاء مع ذلك كرهوا منه ومنها أن ينظر بعضهم لفرج بعض.
و (زينتهن) التي حرم الله إظهارها أمام الأجنبي.
((وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)) فمع المحارم لا حاجة لذلك، فكشف شعر الرأس والعنق والصدر وما إلى ذلك إلى أحد من المحارم لا مانع من هذا.
قال: ﴿أَوْ آبَائِهِنَّ﴾ [النور: ٣١] آباء البنات يحل له أن يرى الزينة من ابنته، وأن تري البنت زينتها لأبيها فهو محرم لها وهي محرم له، وليست المحارم ما لا يخطر على البال مما يكون عادة مع الأجانب، قال تعالى: (أو آباء بعولتهن) أي: آباء الأزواج، وهو ما يسمى في اصطلاح بعض ديار المشرق بالعم، فأبو الزوج كذلك محرم حرمة أبدية، فإن بقيت المرأة زوجة أو طلقت فإنه يبقى محرماً لها كما لو كان أباها نفسه.
قال: (أو أبنائهن) والمرأة كذلك مع أبنائها، والأبناء كذلك مع أمهم، قال: (أو أبناء بعولتهن) أو الربائب، فابن الزوج بالنسبة للزوجة هو كولدها؛ لأنه محرم عليها حرمة أبدية.
قال: (أو إخوانهن) جمع أخ، وهو أخوها الشقيق أو غير الشقيق أي: الأخ لأب ولأم، أو الأخ لأب فقط أو الأخ لأم فقط، فكل أولئك محارم، فلها أن تظهر زينتها لهم، ولهم أن يروها كذلك.
(أو بني إخوانهن) أو أبناء الإخوة وهم من ينادونها بالعمة، فهم كذلك محارم وهي محرم لهم.
(أو بني أخواتهن) من يناديها من الأبناء بالخالة، فالخالة والعمة والزوج والأب والربيب والإخوة كل أولئك محارم لمن هذه صلتهم بها، ولمن صلتها بهم كذلك.
(أو نسائهن) النساء: جمع لا مفرد له باللفظ، ومفردها امرأة، والمعنى: المؤمنات مع المؤمنات؛ لأن الأمر بهذا للمؤمنات: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن)، فالمؤمنات مع المؤمنات والمسلمات مع المسلمات كذلك لهن جميعاً أن يظهرن محاسنهن وزينتهن لبعضهن، وخرج من هذا من لسن بمسلمات فهن لسن بنساء مؤمنات، أي: لسن بالنساء اللائي لهن صلة دين أو أخوة إسلامية، ومن هنا يقول جمهور العلماء بأن المرأة غير المسلمة هي من المسلمة كالأجنبي من المرأة، فلا يجوز أن تظهر لها إلا كما تظهر للأجنبي إما مستورة كاملة أو تظهر الوجه والكفين فقط.
فإن قيل: ولم ذلك؟ قالوا: لما يمكن أن تصف تلك النصرانية أو اليهودية الصفة التامة لتلك المؤمنة لأزواجهن من الكفار يهوداً ونصارى وغيرهم، وهذا قد حرمه الشارع، فإن عمر رضي الله عنه كتب لعامل الشام أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه فقال له: بلغني أن النساء المسلمات يدخلن في الشام للحمامات ومعهن النصارى واليهود، فامنعهن من ذلك، فقد منع الله ذلك ولم يبح إلا للمؤمنات فقط، أما أن يدخلن هكذا عرايا على النساء غير المسلمات فلا، فمنعهن أبو عبيدة من ذلك.
وقال بعض الأئمة: (نسائهن) أراد أن يفهم منها كل النساء، وأن الكافرة كذلك لا مانع منها، ولكن الآية تكاد تكون صريحة وليس هناك ما يؤكد هذا، ومن هنا ننتبه أن الآية تدل على مسلمين آخرين من الأقارب فلم يذكر الخال ولم يذكر العم؛ ليس لأن الخال والعم ليسا بمحرم، قالوا ولكن السبب: أنه لا يجوز للمرأة أن تظهر زينتها ومحاسنها للعم والخال، لأنه يمكن أن العم يتحدث بذلك لأولاده وهم أجانب، ويتحدث الخال لأولاده وهم أجانب، وقد كان ﷺ ينهى الزوجات من أن يصفن النساء لأزواجهن كما لو أنهم يرونهن رأي العين، فمنع الزوجات أن يخبرن أزواجهن بأن فلانة طولها وعرضها وعينها وخدها كذا حرم الشارع ذلك؛ لأنه يمكن أن يشهي مثل هذا الوصف لزوجها، ويدعوه لما لا يليق به مما يكون خطراً على دينها ودينه، فإن كان هذا مع العم والخال وهما محرمان مؤمنان، فمع المرأة الكافرة من باب أولى.
قال: (أو ما ملكت أيمانهن) الكلمة في ظاهرها تدل على أن ملك اليمين عبيداً وإماءً إن كانوا ملكاً للمرأة بأنه لا مانع من أن يكونوا معها كالمحارم، ولكن المفسرين زيفوا هذا الفهم لبعض المفسرين وقالوا: ليس الأمر كذلك، فإن العبيد قد دخلوا من أول مرة على أنهم أجانب، ولا يدخل هنا إلا المرأة الكتابية الكافرة إن كانت أمة للسيدة المؤمنة، فلا مانع من أن تظهر زينتها لها، ولا مانع من أن تعيش معها كما يعيش المحرم مع محرمه؛ لأنها وهي تحت ملكها وتصرفها وملك يمينها كونها تصف لزوجها الكافر أو لأولاده محاسنها وزينتها مأمون هذا فهي أمتها، والشأن ألا تزوجها بكافر، وألا يكون عندها أولاد كفرة، ومن هنا قالوا: إن ملك اليمين يخص الأمة، أي: المرأة المملوكة لا العبد.
قال: (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال) أو من عادةً يملئون البيت ممن لم يأت إلا لأجل الطعام والشراب والمتاع، وأخذ الصدقة والعطاء ممن ليس له حاجة في النساء، ولا رغبة له فيهن، وهؤلاء كالرجال المغفلين الذين عادة يتصلون ببعض البيوت والأشخاص ولا يشتهون النساء ولا يفكرون فيهن، وليست لهم الرغبة التي تكون عند الآخرين، أو الشيخ الهرم المسن الذي لا رغبة له في النساء ولا النساء لهن رغبة فيه، أو الرجال الذين هم عادة منعوا من الزواج إما لأنهم جبت فروجهم أو دقت أنثياهم فأصبحوا أشبه بالنساء، وهذا ما يسمى بالخصي، وهؤلاء لا يبقون رجالاً، بل يبقون خلقاً لا هم رجال ولا هم نساء، وتذهب منهم الرغبة بالنساء مطلقاً، فدخول هؤلاء كذلك على النساء لا مانع منه بأن يكونوا في البيوت خدماً، أو أن يكونوا ممن يتبعون الناس في البيوت لطعام أو شراب أو خدمة أو ما إلى ذلك، فإذا ظُنَّ إنسان يوماً أنه أبله أو مغفل أو مجبوب أو عنين ثم أخذ يتكلم عن محاسن النساء فإنه يمنع من الدخول عليهن، كما حصل ذلك مرة من مخنث كان يظن أنه من المغفلين، وكان يدخل البيت النبوي، وكان اسمه هيت، فدخل رسول الله ﷺ يوماً فوجده وبعض أمهات المؤمنين حاضرات وهو يقول لأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو ذهبت إلى الطائف ورأيت فلانة فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، وأنها وأنها فقال صلى الله عليه وسلم: (أراك تفهم هذا؟ أخرجوه عنكم، فطرد) وأخرج من المدينة ألبتة، وأبعد عن سكن الناس بالمرة؛ لأنه أظهر من بلاهته وغفلته ما غر الناس فعوقب بالنفي المؤبد، وبقي منفياً حياة رسول الله ﷺ وحياة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان إلى أواسط أيامه رضي الله عنهم، فأذن له أن ينزل يوم الجمعة ليسعى فيما يتعيش به هو ومن في خارج المدينة.
فقوله: (أو التابعين غير أولي الإربة) أي: التابعين للأسر أزواجاً وزوجات ممن يخدمونهم وممن يطلبون رفدهم وصدقتهم وعطاءهم وسقط متاعهم، فهؤلاء إن كانوا لا إربة لهم ولا غرض ولا شهوة، ولا يعرفون مما يتعلق بالنساء شيئاً أذن لهم في الدخول على النساء.
قال تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) (الطفل) هنا: الأطفال، فهو اسم جنس للجميع، فهؤلاء الأطفال الذين لم يطلعوا على عورات النساء بحيث لو رأوا شوهاء أو جميلة عريانة أو لابسة لا يدركون ذلك بالمرة ولا يفكرون فيه، كأبناء خمس سنوات أو ست سنوات أو أقل، أما الولد المميز الذي يستطيع أن يقول: هذه جميلة وهذه شوهاء، وهذه من صفتها كذا وهذه من صفتها كذا فهؤلاء أيضاً لا يجوز لهم أن يدخلوا على النساء، ويجب أن يمنعوا ما داموا يعرفون من النساء محاسنهن ويعرفون منهن صفاتهن، وأما أولئك الأطفال الذين لا يميزون فلا مانع، وعورة المرأة زينتها، وهكذا أعيدت الكلمة باسم (عورات) وهو ما قاله الأئمة ومفسروا الآية، فقوله: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) أي: هي عورة لا يجوز أن تظهر؛ ولذلك نرى لم يذكر العم وهو محرم، ولم يذكر الخال وهو محرم وهو قول الشعبي والضحاك والأئمة من المفسرين، قالوا: منعهم أن يروا زينة المرأة أو محاسنها كيلا لا يصفوها لأولادهم فيكون بذلك كشف للعورة وهذا لا يجوز، وأما الأخ فأبناؤه محارم، والأب كذلك أبناؤه إخوة، والأخت أبناؤها محارم، وأولاد الزوج من الرضاعة فهم محارم، وكل ما ذكر الله من الآباء والأبناء في هذه الآية هم جميعاً من المحارم، ولكن لم يذكر الخال والعم لأن أولادهما ليسوا من المحارم؛ واتقاء أن يذهب العم والخال فيصف للأولاد زينة المرأة ومحاسنها، كما لو كان يراها مباشرة، فمنع من ذلك لهذا المعنى، كما منعت المرأة الكتابية والمرأة غير المسلمة من أن ترى محاسن المسلمة وزينتها؛ كيلا يتحدثن عنها لأزواجهن أو لأولادهن وهم كفار.
قال تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن) أي: لا يضربن بأرجلهن ليبدين ما يخفين من زينتهن، وهذا لا يزال إلى الآن في بعض الأقطار، فمن حلية المرأة أن تلبس في رجليها ما يسمى بالخلاخل، فتجد المرأة تلبس ذلك في رجلها إذ تكون متسترة هكذا الشأن في المسلمات، ولكن المرأة بفطرتها تريد أن تشعر المارة بأنها تخفي من الحلية في الرجل واليد والأذنين والعنق ما يدل على رفاهيتها وعزتها على زوجها وعلى أبيها، فتفعل حركة برجليها وتضرب رجلاً برجل ليسمع صوت الخلخال وتلفت أنظار الماشين من الرجال، فإن فعلته لمجرد هذا فهو ممنوع وحرمه القرآ