اهتمام الإسلام ببيوت الرحمان وباجتماع المسلمين فيها
قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] أي: أن تحترم، وكان النبي ﷺ يأمر بكنس مسجده، وقال لنا: (من أنشد ضالة في المسجد فقولوا له: لا ردها الله عليك، ومن باع فيها واشترى فقولوا له: لا أربح الله تجارتك) وهكذا ﷺ فسر لنا الآية قولاً وعملاً وقال: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم)، وهكذا ﷺ علمنا وأدبنا وفسر لنا هذه الآية الكريمة في احترام المساجد ورفع شأنها وتقديرها، وألا ندخلها ونحن جنب، وألا تدخلها حائض ولا نفساء، وألا يدخلها مشرك.
وإن قال بعض الأئمة بدخول المشركين فيها بإذن مسلم أو بإذن حاكم، وذلك لا دليل عليه، فالله جل جلاله يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨]، فاعتبرهم عين النجاسة فقال: نَجَس، ولم يقل نَجِس، والنجاسة لا تطهر إلا بزوالها، فلو أن المشرك اغتسل في البحر طوال عمره ما زالت نجاسته، كما أن العذرة لا يطهر من نجاستها إلا بزوالها، وأما أن تطهرها نفسها فإنك كمن يريد أن يطهر الخنزير والجيفة ولن تطهر أبداً؛ لأنها عين النجس، ولما كان المشرك عين النجس أمر الله ألا يدخل مسجداً، وأن يصان المسجد من دخوله.
ومنه قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] أي: أمر وأوصى وأوجب أن تطهر، ويرفع شأنها وتقدس، والمساجد حث الله ورسوله عليها وعلى بنائها وعمارتها، وقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأيتموه يتعهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان)، واعتبر النبي ﷺ الجالس في المسجد -حتى ولو لم يكن يصلي وإنما ينتظر الصلاة- في صلاة، فكيف إذا ضم للجلوس في المسجد ذكراً وتلاوةً وصلاةً ومذاكرةً وتعليماً وبياناً لكتاب الله وبياناً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فإن ذلك نور على نور.
وحث الله ورسوله على بنائها، والأحاديث في ذلك مستفيضة وقد وصلت إلى حد التواتر، منها: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة)، ومنها: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) أي: ولو كعش طائر.
ولكن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فينبغي أن تكون هذه الأموال من حلال، ومع ذلك هناك نوع من المساجد حرمه الله وهي مساجد الضرار، وقد ذكر في القرآن الكريم، وهو أن يؤتى إلى مسجد كبيت الله الحرام فيبنى بجواره مساجد أخرى بلا سبب؛ لأن صلاة الجماعة على كثرة ما تعددت على ما كانت الصلاة أكثر أجراً وثواباً من صلاة الفرد، مع أن صلاة الجماعة وصلاة الفرد سواء في ركعاتها وذكرها وتلاوتها وحركاتها، لكن الله تعالى أعطى ثواباً وأجراً لصلاة الجماعة على مقدار سبع وعشرين درجة من صلاة الفرد، مع أن فعلها وقولها شيء واحد، فالجماعة مطلوبة عند الشارع.
ولذلك فإن الشارع جعل للمسلمين جماعات تكون في مسجد الحي، وفي المسجد الجامع للصلاة، وفي مصلى الأعياد، فجعل المسلمين يجتمع بعضهم ببعض خمس مرات في اليوم، وإن شغل شاغل فصلاتان أو صلاة واحدة، ولكن في يوم الجمعة لابد أن يجتمع المسلمون في المساجد الجامعة؛ ليرى المسلم المسلم الآخر الذين عقد الله أخوتهما، فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]، ولا توجد دار تجمع عموم المسلمين في الأرض كقصر واسع المرافق مثلاً فلا يجمع عموم المسلمين إلا بيوت الله.
وفرض على المسلمين أن يجتمعوا في السنة مرتين في عيدي الفطر والأضحى، ويكون ذلك في الصحراء لا في المساجد ولا في الدور، فيجتمع فيها كل أهل البلدة، وهذه من السنن والشعائر التي تكاد تكون قد تركت في الشرق، ولا نزال نحتفظ بها في المغرب.
وفرض الله حقاً واجباً على جميع مسلمي الأرض أن يجتمعوا مرة في العمر في بيت الله الحرام في المناسك في عرفات ومنى؛ ليرى المسلم أخاه المسلم فيواسيه إن احتاج لذلك، ويتعرف على أمراضه وعلى آلامه، وليعينه إن استطاع باليد، فإن لم يستطع فبكلمة طيبة، وهذه اللغة التي أصبحت في هذا العصر لغة مؤتمرات والتي لا تكاد تنتهي منه مدينة، والإسلام من جملة عقيدته وأعماله أن يجتمعوا لإغاثة رجل واحد على الدواب، فلا طائرات ولا سيارات ولا بواخر، إن هي إلا سفن شراعية، فقد يتنقل الإنسان شهراً وشهرين ولا يكاد يصل إلى الشاطئ إلا وتأتي رياح معاكسة فتعيده إلى المكان الذي جاء منه وكأنه لم يأته.
ولهذا يقول الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
وكان المسلمون مع ذلك حريصين على أداء هذا الركن الخامس؛ ركن حج بيت الله الحرام، فيجتمعون ويكتبون الراحلات: وجدنا إخواننا في المشرق، واجتمعنا بمغارب وهنود وصينيين وسود وبيض، واجتمعنا بصالحين وعلماء، والكل قد جمعهم حب الله، ونشر دينه، والقيام بعبادته وطاعة كتابه وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهكذا فإن الاجتماع في حد ذاته مطلوب، ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [النور: ٣٦].
وشعار اسم الله في المساجد أن ينادى باسمه واسم نبيه وعبده ورسوله ﷺ في الأذان خمس مرات في اليوم والليلة، فيؤذن المؤذن فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ويختم بالله أكبر، ثم يعيد هذا في الإقامة، ويدخل المصلي المسجد فيذكر الله بما شاء من أنواع الأذكار، وبالصلاة على نبيه ﷺ وهو من ذكر الله، فهذه المساجد يتلى فيها كتاب الله، ويصلى فيها الفرائض والنوافل، والمقام في المسجد نفسه يعتبر عبادة قائمة بنفسها انتظاراً للصلاة واعتكافاً.
ولذلك قال فقهاؤنا: من دخل المسجد فنوى أنه معتكف مدة مقامه في المسجد فإنه يؤجر أجر المعتكف، على أن يحرص على التلاوة وعلى الذكر، وأن يكون دائم الطهارة وهو جالس في المسجد، ويزداد بيت الله الحرام على المساجد الأخرى بالطواف بالكعبة المقدسة، وبالسعي بين الصفا والمروة.
ولذلك لا يوجد مسجد في الأرض سوى بيت الله الحرام يفعل فيه ذلك، لذا أمر النبي ﷺ أن تبقى أبوابه شارعة ليلاً ونهاراً، وقال: (يا بني عبد مناف لا تغلقوا باب الكعبة المشرفة)، فالصلوات الخمس لها أوقات، وأما السعي والعمرة والطواف فلا وقت لهن، فيطوف الإنسان ليلاً ويطوف نهاراً، وفي جميع الفصول صيفاً وشتاءً ربيعاً وخريفاً، فهذه عبادة دائمة مستمرة، وقد قال العلماء: إن الكعبة هي سرة الأرض وتعلو إلى سرة السماوات السبع التي تحاذيها، ويكون فيها الملائكة، كما قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما من موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع يقول: سبوح قدوس)، ويذكرون الله بأنواع الأذكار، ففي الوقت الذي يكون فيه المؤمنون يطوفون بهذه البنية المقدسة كذلك في السماء الأولى فالثانية إلى السماء السابعة ملائكة يفعلون هذا الفعل ساجدين وراكعين وذاكرين وتالين، يرجون رحمة ربهم، نفسهم الذكر، لا يأكلون ولا يشربون.
قال تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٦ - ٣٧]، والتسبيح يشمل الصلاة والذكر والتلاوة، ويشمل السعي والطواف، ويشمل جميع أنواع العبادات القولية والعملية، ويشمل نشر علم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشمل العلوم الموصلة لذلك من علوم عربية وبلاغية تؤدي إلى فهم كتاب الله الذي نزل عربياً على النبي العربي صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والغدو: جمع غداة، وهو الصبح والبكور، والآصال: جمع أصيل، وهو العشاء والمساء، فبالغدو صلاة الصبح، ومن الظهر إلى العصر إلى المغرب إلى العشاء كلها صلاة الآصال، فبمجرد ميلان الشمس عن كبد السماء يدخل المساء؛ لأنها مالت إلى الغروب وانتهى إشراقها إلى كبد السماء، وهو ما يسمى بالزوال، ومنه سميت المزولة، والساعة الزوالية هي الساعة التي تقدر بالزوال، والمزولة: ساعة كانت عند العرب من أسلافنا، وبها تعرف الأوقات، وهي موجودة في جميع المساجد الكبيرة في الأرض، وبها كان يعرف الزمان والوقت بالثانية، وأضبط شيء للأوقات هي المزولة.
قال تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٦ - ٣٧]، ولم يقل: نساء، ومعنى ذلك: أن المساجد وصلاة الجماعة تجب على الرجال، ولا يحل لهم أن يتركوا الجماعة إلا لعذر شرعي قاهر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، والجيرة للمسجد هي قريب من ميل، (وجاءه يوماً عبد الله بن أم مكتوم وكان أعمى فقال: يا رسول الله! أيجب علي أن أحضر صلاة الجماعة وأنا كما ترى؟ قال: أتسمع الأذان؟ قال: نعم، قال: لا أرى لك عذراً)، فكان يأتي على مرضه وزمانته الصلاة مع الجماعة، (ومرة أذن المؤذن، وأقام المقيم، وقام ﷺ ليستقبل القبلة، فبينما هو يسوي الصفوف افتقد فلاناً وفلاناً وأفراداً لم يأتوا للجماعة، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن آتي لأقوام لم يحضروا الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم، وأنيب عني من يصلي إماماً بالناس)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ولم يقل: نساءً؛ لأن النساء لا تجب عليهن جمعة ولا جماعة، وقد قال ﷺ كما في الصحاح: (لا تمنعوا إماء الله من بيوت الله، وبيوتهن أفضل لهن)، وقال صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها خير لها من الصلاة في المسجد، وصلاتها في مخدعها خير لها من الصلاة في البيت، والصلاة في قعر البيت أفضل لها من صلاتها في المخدع وفي البيت).
لكن مع ذلك نهى عليه الصلاة والسلام الرجال عن منع النساء من حضور صلاة الجماعة، وعبد الله بن عمر اشتكى له نساء أولاده بأن أولاده يمنعونهن من حضور الجماعة في المسجد ال


الصفحة التالية
Icon