تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً)
قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾ [النور: ٤٣].
يرشد الله في هذه الآية الكريمة عباده على أن يقفوا عندها قليلاً ويفكرون، فقال تعالى مرة أخرى: (ألم ترَ) أي: يا محمد! ألم ترَ أيها المؤمن! أيها المسلم! ألا ترى بصيرتك ويرى بصرك: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ [النور: ٤٣] يسوق ويدفع، والسحاب: هي هذه السحب التي نراها في السماء، فترى السماء صافية، وتراها زرقاء وكأنها قطعة من ماء البحر عند صفاء الجو، وإذا بها تصعدها سحابة هنا وسحابة هناك، وإذا بها تتصل ببعضها، وتتجمع وتتراكم، وإذا بها يعلو بعضها بعضاً، وإذا بالأمطار تخرج منها، وإذا بالبروق والرعود تسمعها تكاد تهز الأرض، ويكاد سنا هذه البروق يأخذ بالأبصار: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ [النور: ٤٣] أي: يجمعه: ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ [النور: ٤٣] هذا السحاب الذي يرتفع إلى الأجواء متفرقاً يجمعه الله تعالى ويؤلفه، فتجتمع هذه السحابة إلى هذه، وهذه إلى هذه، ثم يجعله متراكماً متجمعاً يعلو بعضه بعضاً، ويركب بعضه بعضاً، ولما ركبنا الطائرات الساعات الطوال ونحن بين السحب من فوقنا، والسحب من تحتنا، والسحب أمامنا، والسحب خلفنا، متراكمة بعضها على بعض، والطائرات عادة تتعب في مثل هذه السحب، وتعرض للهز وللاضطراب وقد يصيبها ما يصيب إن تزايد ذلك، ولكن الله يحفظ ويصون جل جلاله، وهكذا يؤلف بينه، ثم يجعله ركاماً بعضه على بعض.
﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ﴾ [النور: ٤٣] فترى المطر يخرج من خلاله، وينزل ﴿مِنْ خِلالِهِ﴾ [النور: ٤٣] جمع خلل، أي من ثناياه ووسطه، ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ﴾ [النور: ٤٣] ترى المطر ينزل من هذه الغيوم المتراكمة والسحب المتراكبة، هذه الأمطار التي تنزل تنتقل بعد ذلك إلى نوع آخر فتصبح برداً، فقال تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ من العلو ﴿مِنْ جِبَالٍ﴾ هذه السحب تتراكم حتى تصبح كالجبال، حتى تصبح وكأنها جبال، ثم هذه الأمطار وهذا البرد يتراكم ويعلو ويصبح متجمعاً مع هذه السحب وكأنها الجبال: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] فيصيب بهذا البرد من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، ونزول البرد يعتبر رجماً، فإذا نزل كسر الأشجار، وأسقط الثمار، وأضاعها قبل نضجها، ويكون نزوله بلاءً من الله جل جلاله، فمن أراد إصابته وأراد عقوبته أنزله عليه كالحجارة، فيفسد الزرع، وقد يفسد الضرع، وقد يضرب الرءوس فيميتها، وقد ينزل كالحجارة من السماء.
﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: ٤٣] يصاب به فيصبح في مصيبة، ﴿وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: ٤٣] يدفعه فلا يمسه ولا يضره.
﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾ [النور: ٤٣] هذه السحب المتراكمة، وهذا المطر الوافر الذي يخرج من بينها، يخرج معه برق، هذا البرق من شدة ضوئه وإشعاعه ونوره يكاد يأخذ الأبصار، (يكاد سنا برقه) السناء: هو الضياء، والسنا: شدة الضوء، وشدة الشعاع وكثرته، والإنسان بعادته لا يستطيع النظر إلى الأضواء الكثيرة؛ لأنها تؤذيه في بصره، وإن هو زاول ذلك مرة بعد مرة فقد يصاب بالعمى أو بالمرض.
﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ﴾ [النور: ٤٣] هكذا يقول تعالى: (يكاد) من أفعال المقاربة، أي: يكاد البصر يذهب، ويكاد ضوءه ينحل ويتحلل فيصبح الناس عمياً، فمن الذي صنع هذه النتيجة؟ ومن الذي رفع هذه السحب، ثم جمعها، ثم أخرج منها الأمطار، ثم أخرج من الأمطار هذا البرد، ثم أنزله فأصاب قوماً فأضاع زروعهم وضروعهم، وصرفه عن أقوام فحفظهم وصانهم؟! هل فعل هذا الشركاء؟! حاشاه ومعاذ الله فهم أعجز من ذلك، سواء كانوا إنساً أو ملائكة أو جناً، فضلاً عن الجمادات.
أليس للإنسان عقل يدرك ويعي ويفهم، وبصيرة تعي وتفهم وتدرك؟ وإذا كان الأمر كذلك أين هؤلاء الكفار مع أبصارهم، ومع أسماعهم، ومع قلوبهم؟ كيف لا يبصرون بعين، ولا يسمعون بأذن، ولا يعون بقلب؟! وهذا يعرضه الله علينا، ويلفت إلى تدبره أنظارنا، وهو بذلك يرشدنا وينصحنا في دار الدنيا والإنسان لا يزال يملك أمر نفسه، فليفكر يوماً من الذي خلق هذه السماوات العلى؟ ومن الذي بسط هذه الأراضي؟ ومن الذي أخرج ماءها ومرعاها؟ وثمارها وأشجارها؟ ومن الذي خلق هؤلاء الخلق: أبيض وأسود وطويلاً وقصيراً وصغيراً وكبيراً وامرأة ورجلاً؟ أليس الله جل جلاله؟ وإذا كان الأمر كذلك -وهو كذلك- فمن الذي يستحق منا العبادة؟ ومن الذي يستحق منا التسبيح والتعظيم والتمجيد والطاعة أليس الله جل جلاله؟ أليس الله هو واجب الطاعة، وأن يعبده خلقه على كل نوع وشكل.
هذه الفقرة من الآية ذكرت فيها (من) ثلاث مرات: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [النور: ٤٣] (من) الأولى ﴿مِنْ جِبَالٍ﴾ [النور: ٤٣] (من) الثانية، ﴿فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] (من) الثالثة، وكل حرف من هذه الأحرف لها معنى قائم بنفسه، وليست مكررة.
﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [النور: ٤٣] (من) الأولى بداية الغاية، أي: إنزال هذه الأمطار وهذا البرد من هذه السحب التي يجمعها ويؤلفها ويخلقها قبل ذلك، ثم تتراكم بخلقه وإرادته، ثم يخرج المطر من بينها بقدرة الله، ثم بعد ذلك يخرج البرق والرعود منها، ثم يصيب بذلك من شاء من عباده، ويصرفه عمن يشاء من عباده، فـ (من) الأولى ((وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ)) هي لبداية الغاية.
((مِنْ جِبَالٍ)) هذه تبعيضية، فليس الجبال كلها ينزلها، فلو نزلت لأصبحت الأرض قاعاً صفصفاً، ولصار للناس ما صار لأهل لوط عندما رفع الأرض عاليها ورماها إلى الأرض رأساً على عقب، وأصبح القوم كالعصف المأكول، كما يخرج من بطون الدواب عندما تأكل العصف، ولكن الله قد رحم أمة محمد خاصة، وأما الأمم الأخرى فعاقبها في الدنيا قبل الآخرة: عاقبها بالغرق، وعاقبها بالريح، وعاقبها بالرجم، وعاقبها بالمسخ، وأما أمة محمد فمرحومة؛ لأن النبي ﷺ ما أرسله الله إلا رحمة للعالمين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]، فإنما هو رحمة مهداة كما يقول نبينا عليه صلوات الله وسلامه، ورحمته عمت المؤمن والكافر، فأما المؤمن فيزيد إيماناً وطاعة وعملاً يكافأ بذلك ويجازى يوم القيامة، وأما الكافر فيمتع بحياته وسمعه وحواسه جميعها، ويعطى فرصة من عمره، ولا يمسخ قرداً كما كان يمسخ أسلافه، ولا ترسل عليه صواعق من السماء، ولا تخسف به الأرض، بل يعطى فرصة في حياته لعله يوماً يفكر في ربه، ويفكر في قدرته، ويفكر في إرادته، ويفكر فيما أنزل على أنبيائه من كتب، وما نطق به الأنبياء من بيان وشرح لهذه الكتب من السنة المطهرة، فهو رحمة مهداة كما قال عليه الصلاة والسلام، وهو رحمة للعالمين: عالم الإنس والجن، عالم المرأة والرجل، عالم المؤمن والكافر معاً.
ثم قال: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] و (من) الثالثة للتبيين، أي: لا ينزل من الجبال حجارة ولكن من جنس الماء، فقد جمد وأصبح كالحجارة يرجم به من شاء من عباده، ويصرفه عمن يشاء من عباده، أولئك لعقوبتهم، وهؤلاء رحمة بهم، وقد يحصل ذلك للمؤمن فيكون كفارة للمؤمن التقي، ويكون عقوبة للمؤمن الفاجر، قال تعالى: ﴿مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾ [النور: ٤٣]، يكاد سنا برقه يذهب بالبصر، فيخطف البصر، ويعمي العين ويذهب ضوءها، كل هذا خلقه الله، وكونه الله سبحانه.


الصفحة التالية
Icon