تفسير قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)
قال الله جل جلاله: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا﴾ [الكهف: ٥٦].
بعد أن أنذر الله جل جلاله وهدد وأوعد وأخبر عن الكافرين والمشركين السابقين في الأمم السابقة أنهم استعجلوا العذاب، وأنهم طلبوا من أنبيائهم المكر والغضب واللعنة ونزول العذاب، يخبر جل جلاله بأن وظيفة الأنبياء ليست العذاب ولا الرحمة، وإنما العذاب والرحمة بيد الله، ولكن المرسلين والنبيين أرسلهم الله جل جلاله مبلغين ومبشرين ومنذرين، فيبلغون الناس رسالات ربهم، ويبلغونهم ما أمرهم به ربهم، ويبلغونهم ما أنزل عليهم من كتاب الله، مبشرين أهل الطاعة بالجنة، ومنذرين العصاة بالعذاب والنار، فتلك وظيفة الأنبياء.
ولكن الله جل جلاله قد بشرهم وأنذرهم، فهو جل جلاله الذي يحقق البشرى للمؤمن المتقي برحمته ومغفرته ورضاه ودخول الجنة، وهو الذي يحقق النذارة والتخويف والتشديد والإيعاد، وينفذ ذلك على العصاة والمخالفين بلعنته وغضبه وبدخولهم النار.
قال تعالى عن هؤلاء المشركين والكافرين: ﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [الكهف: ٥٦] فيجادل هؤلاء وينازعون ويعترضون بلا حجة أو سلطان أو برهان أو دليل من عقل أو منطق، فضلاً عن أن يكون لذلك حجة من الله أو من رسله السابقين، وإنما هم يفتحون أفواههم ويغلقونها كما تعوي الكلاب وتصيح الحيوانات، فلا يدرون ما يقولون.
فلهم شأن الكافر الذي فقد عقله، فيريدون الجدال ولا جدال في هذه الأشياء إلا بالباطل؛ ظناً منهم أن هذا الباطل سيدحضون به الحق، وسيزيلونه ويمحقونه وسيزلقونه إلى أن يصبح زائلاً، وهيهات أن يبطل الحق باطل، وأن يقف في وجه الحق أحد! ومن أراد أن يفعل ذلك تكون النتيجة ذهابه وضياعه مع باطله وهرائه وكفره، ويبقى الحق والبارز الظاهر المتسلطن، ذو السلطان والبرهان والدليل.
قال تعالى: ﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [الكهف: ٥٦] أي: يدحضوا به الإسلام والقرآن، ويبطلوا به رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وهيهات أن يتم ذلك لأحد إلا لأرعن كافر أو لمجنون فقد عقله قبل أن يفقد دينه، وشأن الغواة شأن الذين لا يعلمون ما يقولون ولا ما يصدر عنهم، وهكذا إلى أن يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
قوله: ﴿وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا﴾ [الكهف: ٥٦] أي: لا يكتفون بالجدال بالباطل، بل يأخذون في الاستهزاء والسخرية بآيات الله التي أنزلها على أنبيائه من معجزات ودلائل واضحات من كتب لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ويهزءون بالرسل والكتب وبالحق.
قوله: (وما أنذروا هزواً) أي: أنذروا به، فيهزءون بما أنذرهم الله به من عذاب وغضب ونار، ويهزءون برسلهم وما أتوا به من معجزات بينات، ودلائل واضحات، ولا يكون ذلك إلا دلالة على كفرهم واتباع أهوائهم، وضياع عقولهم وهم في الدنيا كذلك، ويكادون ينتهون حتى يأخذهم الله في الدنيا أخذ ذل وهوان وسحق، ولعذاب الله أشد وأنكى.