تفسير قوله تعالى: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: ٥٤].
يقول تعالى لمحمد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، أي: أطيعوا الله في كتابه بما أمر به ونهى عنه، وأطيعوا النبي إن كان بين أظهركم، هذا في عصر الصحابة وفي الحياة النبوية، وإن كان بعد ذلك فإلى يوم القيامة: أطيعوا نبيكم ورسولكم بطاعة سنته؛ لتكونوا بذلك مؤمنين صادقين، وفي هذه الحالة: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوا﴾ [النور: ٥٤] أي: فإن أعرضوا، وصدوا عن الإسلام، ونافقوا، وأظهروا الطاعة لساناً، وأظهروا الإيمان قولاً، وكانوا في حقيقة الأمر ليسوا كذلك: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ﴾ [النور: ٥٤] فإن على الرسول ﷺ ما كلف وأمر به والذي أمر به: هو البلاغ: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: ٥٤] كما ختم الله الآية الكريمة، فعلى النبي ﷺ أن يبلغ دين الله مبيناً الحلال والحرام، وأن يأمر بالجهاد، وأن يكشف المنافقين؛ لينفر عنهم المؤمنون، وأن يعرفنا الصادق من الكاذب؛ ليكون الصادق قدوة، وليكون المنافق نفرة ينفر الناس عنه، ويبتعدون عن مجالسه، وعن قبول قوله، وعن ظاهر عمله، فهو منافق كذاب، ففي هذه الحالة يكون قد أدى ما حمل به من رسالة وأمانة.
﴿وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ [النور: ٥٤] أي: عليكم يا هؤلاء! الذين أمرهم الله بطاعته وبطاعة رسوله ﷺ ما حملتم، والذي حملنا وأمرنا به: هو أن نطيع الله في قوله، وأن نطيع الرسول ﷺ في قوله، فما حلله الله حللناه، وما حرمه حرمناه، لنكون مؤمنين صادقين ملتزمين بكل ما ورد في كتاب الله من الأركان الخمسة وواجباتها وآدابها وسننها، وهكذا في بقية الأعمال من الصدق في القول، والإحسان للمؤمن، وجهاد الكافر، وعمل ذلك ما دمنا أحياء حتى لقاء الله.
فالذي حملناه الطاعة، وتصديق الرسالة، وقبول ما جاء في كتاب الله على أنه من الله حقاً، وقبول ما جاء عن رسول الله ﷺ على أنه النبي الصادق المصدوق المبلغ عن الله، والمعصوم صلى الله عليه وعلى آله، والذي حمل نبينا هو تبليغ الرسالة، والذي حملناه طاعته، والتزام هذه الرسالة، والقيام عليها مدة حياتنا إلى أن نلقى الله، وأن نأمر بها غيرنا: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، فهذه رسالة بلغنا إياها رسول الله ﷺ عن الله جل جلاله، فعلى رسولنا البلاغ، وعليه كذلك أن يعمل بالرسالة التي أرسل بها، فهو رسول إلى نفسه وهو أول المسلمين، وقد كان يصلي كما نصلي، ويصوم كما نصوم، ويزكي كما نزكي، ويحج كما نحج، بل كان أول مصل وأول حاج وأول مزك وأول صائم، بل إنه كان يتنفل فوق هذه الفرائض، فقد كان يتهجد حتى تتورم قدماه صلى الله عليه وسلم، وكان يجوع ويبتعد ويتزهد في الطعام حتى يربط الحجرة على بطنه الشريف، وكان ﷺ يعمر جميع وقته بعبادة الله من أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وصلاة، وزكاة، وتهجد، وتدريس، وتعليم، وجهاد، فقد جاهد بسيفه، وجاهد بلسانه، وجاهد بحاله، وجاهد بمقاله.
وكان عليه الصلاة والسلام المثل الإنساني الكامل للمسلم، ولذلك فالله تعالى يقول لنا عنه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]، فهو أسوتنا وهو قدوتنا وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، نهتدي بهديه، ونعمل بقوله، ونطيع أمره، ونفعل فعله، ومن هنا عندما كان يقول لنا عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة)، وقال عن أمته: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي).
ولذلك الاطلاع على السيرة النبوية والبحث عن ظواهرها وبواطنها وحفظها ووعيها واجب على كل مسلم؛ لأن النبي ﷺ كان القدوة في فعله، وكان القدوة في قوله، وما السنة إلا قول وفعل وإقرار، وهي السيرة النبوية كلها، فكل ما كان يفعله ﷺ يعتبر شريعة، وكل ما يقوله شريعة، وكل ما يقره شريعة، فوجب إذاً على كل إنسان في الأرض أن يحكم بها، وأن يعمل لها، وإلا كان كافراً أو منافقاً أو عاصياً، ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام يصف هذه الفرقة التي هي على الحق: بأنها التي تأتسي به، وتعمل بعمله، وتجعله القدوة وتجعله الأسوة صلى الله عليه وعلى آله، وقل مثل ذلك عن أصحابه رضوان الله عليهم: السابقين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، فهؤلاء رضي الله عنهم: فرضي قولهم، ورضي عملهم، كما رضي من اتبعهم في أعمالهم وفي أقوالهم، والذين اتبعوهم من جاء بعدهم وإلى يوم القيامة، وما سوى ذلك فباطل وضلال، ومهما زعم من زعم أن ذلك هو الإسلام وذلك هو الدين وذلك هو الرسالة إذا لم يكن ذلك حسب الشريعة المحمدية والقدوة المحمدية وأسوة الصحابة رضوان الله عليهم، مهما زعم الزاعم وقال القائل فإنه يكون كذباً ونفاقاً.
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: ٥٤]، إذاً: على الرسول ﷺ ما حمله الله من أمانة، وأمره بها، وما هذا الذي حمله إلا الرسالة والنبوة، فهو الذي لا ينطق عن الهوى، فما هو إلا وحي يوحى.
﴿وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ [النور: ٥٤] أي: وعليكم الطاعة في كل ذلك، وضابط ذلك ورابطه: ما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا)، ففعل الحرام يجب أن يترك كله، ولا تقل: سأترك هذه دون هذه، فلا يحتاج منك ترك الحرام أكثر من إرادة ومن عزيمة ومن قوة يقين وإيمان، وأما الفعل فقدرة الإنسان لا تسعه كله، فقد أمرنا بالصلاة قياماً لكن من مرض فليصل جالساً، فإن لم يستطع فليصل ممدداً، وأمرنا بالوضوء بالماء فمن لم يجده أو عجز عنه فليتيمم بالصعيد الطيب، وأمرنا بالصيام في شهر رمضان فمن كان مسافراً أو كان مريضاً، ومن كانت حائضة أو نفساء فليقضوا إذا زال هذا العرض.
وهكذا أمرنا الله تعالى بالأمر عزيمة ثم رخص لنا للأعذار وللضرورات، والضرورات تبيح المحظورات، وهذا أصل من أصول الشريعة.
﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: ٥٤] أي: إن أطعتم رسول الله ﷺ في أمره، وأطعتم نهيه: اهتديتم إلى الطريق الحق، فصرتم الموحدين المؤمنين حقاً، فطاعة رسول الله ﷺ هي الربح وهي الفلاح وهي الفوز، ومن حاد عنها فقد حاد عن الإيمان وحاد عن الإسلام، ويوشك أن يكون منافقاً أو كافراً، ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: ٥٤] فعلق الهداية على الطاعة، قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: ٥٤] أي: ليس على الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا أن يبلغ كل الناس في المشارق والمغارب، ففي حياته بما سمعوه منه، أو سمعوه عمن سمع منه، وبعد موته لمن قرأ حديثه وتلا سنته، أو سمع من ورثة الأنبياء وهم علماء الشريعة، فكل ذلك يوجب الطاعة على كل إنسان، فهو مرسل إلى الأبيض والأحمر والأسود، إلى المشارق والمغارب، فلا نبي بعده، وقد انفردت ديانته بأنها عالمية، فهي مرسلة لكل الخلق، وليست الرسالات السابقة إلا رسالات قومية محلية، فعيسى كان نبياً لبني إسرائيل، وموسى كان نبياً لبني إسرائيل، ولم يؤمر أحد بالإيمان به من غير بني إسرائيل، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كان الأنبياء قبلي يرسلون إلى أقوامهم خاصة، وبعثت إلى الناس عامة)، وهذا من الخصائص المحمدية.
وفي الإنجيل عن عيسى بأنه قال لهم: إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل فلم يرسل لعرب، وإنما أرسل لبني إسرائيل فقط.
والقرآن أكد هذا وهو المهيمن على الكتب السابقة فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ [الصف: ٦]، وتقديم المعمول على العامل في لغة العرب يدل على الحصر، أي: إنما كانت رسالته لبني إسرائيل خاصة وليست لغيرهم، وهذا ما صرح به الإنجيل وأكده من البداية إلى النهاية، وقد بقيت فيه دلالات أكدها القرآن المهيمن عليه.
إذاً: فعلى رسولنا البلاغ المبين البين الواضح، وقد بين ﷺ رسالته ووضحها، فقد كان يقول الكلمة ثلاثاً لتفهم عنه، وكان ربما يقول القول الواحد في عدة مجالس، فإننا نجد الكثير من السنة نطق بها بألفاظ مختلفة، وليس ذلك من تصرف الرواة، ولكن نبي الله عليه الصلاة والسلام كان إذا قال القول -وهو سيد العرب فصاحة وقد أعطي جوامع الكلم- كان يقول القول في المرة الأولى بلفظ، وفي الثانية بلفظ، وفي الثالثة بلفظ، لكن المؤدى واحد؛ ليفهم عنه، وكان كثيراً ما يقول: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)، وقال: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم).
وهكذا انتشر الإسلام، فالصحابة سمعوا من نبي الله عليه الصلاة والسلام، وبعد ذهاب النبي للرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه قاموا بنشر رسالته وتبيينها بالسيف والقلم، وخرجوا بها عن جزيرة العرب فنشروها في مختلف أصقاع الأرض، وهكذا ذهبوا إلى ربهم راضين مرضيين، فجاء


الصفحة التالية
Icon