تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات)
قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: ٥٥].
هذه الآية من معجزات القرآن، وكثيراً ما قلت وأقول: لقد آمن الصحب بنبينا محمد ﷺ على معجزات عاصروها ورأوها وسمعوها شهوداً وحضوراً، وآمنا نحن بها إيماناً وتصديقاً ولم ندركها، ولكن القرآن الذي وصفه النبي ﷺ بأنه معجزته الخالدة الباقية هو معجزة بعمومه؛ إذ تحدى الله البشر على أن يأتوا بسورة مثله، أو بسورة مثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ومضى على هذا التحدي ١٤٠٠ سنة وإلى الآن وهم عاجزون، وسيبقون عاجزين إلى يوم القيامة على أن يأتوا بسورة مثله.
وهذا سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله وهو فصيح العرب وبليغهم قد أوتي جوامع الكلم، ومع ذلك عندما تقرأ كلامه في سنته وكلام الله في كتابه تجد بين قول النبي عليه الصلاة والسلام وقول الله من الإعجاز ومن البلاغة ومن الفصاحة ما لا يصل إليه القول النبوي ولا لقريب منه، فبينه وبينه ما بين الخالق والمخلوق.
والعجب أن الكافرين يقولون عن نبينا صلى الله عليه وسلم: إنه الذي اخترع القرآن ونطقه، مع أنه كلام الله جاء بالإعجاز، وإذا قال كلامه الذي من نفسه نزل كلامه عن الإعجاز بمراحل ودرجات كبيرة، فليس هناك أي تشابه لا في البلاغة ولا في الفصاحة ولا في الإعجاز بين القول الإلهي والقول النبوي، فالقول النبوي تسمعه فتجده كلاماً فصيحاً يقاربه وقد يشبهه غيره من الكلام الفصيح، ولكن كلام الله لن يكون ذلك ولو في أصغر السور، ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ١ - ٢]، ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: ١]، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] فتقرؤها وتشعر بالإعجاز في لفظها، والإعجاز في سبكها، إعجاز في معناها، ولن يستطيع إنسان أن يأتي بمثل ذلك، وقد أتى بعض الكفرة ببعض الترهات كـ مسيلمة الكذاب وغيره، ونسبوا لبعض الشعراء كذلك، وهؤلاء حاولوا أن يقلدوا القرآن ويأتوا بمثله فأتوا بخزعبلات تحس النفس بركاكة ألفاظها، فهي لا تكاد تفهم، بل إنها تضحك الثكلى التي فقدت ولدها، ومن هنا كان الإعجاز.
وهذه الآية هي إحدى المعجزات الخاصة بنفسها، القائمة بذاتها، مضافة إلى المعجزة العامة في كتاب الله، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ﴾ [النور: ٥٥] فالله وعد ووعده الحق، ومن أوفى بعهده من الله؟! وعد المؤمنين منكم -أيها الناس الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات- أي: آمنوا بالله قولاً وعملاً، وما الصالحات إلا الطاعة، وما الصالحات إلا القيام بالأركان الخمسة، وما الصالحات إلا التقوى، فعل الصالحات وترك المنكرات، وعدهم الله ليستخلفنهم في الأرض، أي: يجعلهم خلفاء ويحكمهم في الأرض، ويصبحون أئمتها المحكمين فيها، يقتلون بأمر الله، ويحيون بأمر الله، وينشرون بين الناس الحكم والعدل، كلمتهم الكلمة، وأمرهم الأمر، بأيديهم مقاليد الأرض.
هذه الآية مدنية كما قلنا في بدايتها، والنبي عليه الصلاة والسلام قد تحمل الشدائد في مكة، ثم تحمل الشدائد في المدينة، ولكن في المدينة أذن له بالجهاد والكفاح والقتال، فكان يوم له ويوم عليه، وإن كانت العاقبة له وللمؤمنين، فالله يقول هنا له وللمؤمنين عموماً، وهو أول المؤمنين صلوات الله عليه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ﴾ [النور: ٥٥] اللام: لام القسم، أو اللام الموطئة للقسم، كأن الله يقول: بذاتي العلية لأجعلنكم خلفائي في الأرض، وأكد القسم بنون التوكيد الثقيلة، على أن تكونوا خلفاء الله في القيام بما يأمر الله به وينهى عنه، ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾ [ص: ٢٦]، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠]، وهم كانوا خلفاء بأن يحيوا بالله، ويميتوا بالله، وأن يعطوا العطاء من مال الله، فيعطون هذا ويفقرون هذا، ويأخذون مال الكافر ويغنمونه في الحروب والمعارك ويعطونه للفقراء المسلمين المجاهدين.


الصفحة التالية
Icon