نزول الأمن بعد الخوف
ثم قال تعالى: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ [النور: ٥٥] فكانوا يقولون: يا رسول الله! إلى متى ونحن خائفون؟ إلى متى ونحن مسلحون؟ لا نكاد نلقي السلاح لا ليلاً ولا نهاراً، لا سفراً ولا حضراً، إلى متى ونحن غير آمنين على الحياة والأعراض والأموال ولا على دوام ديننا، وإذا بالله الكريم يتولى الجواب عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وينزل هذه الآية الكريمة في هذه السورة الشريفة سورة النور، فيعدهم بنصرهم واستخلافهم في الأرض، حكاماً ودولاً، وأنه سيمكن لهم دينهم الذي رضيه لهم، ويبق الدين الحق وحده، وكل الأديان السابقة تحت الجزية، وتحت حكم وتصرف الإسلام وأهله، ووعدهم كذلك أنه سيبدلهم بعد خوفهم أمناً، ويعيشون آمنين في أوطانهم لا يخافون إلا الله، فلا سرقة ولا اغتيال، ولا من يحاول أن يسيطر على بلادهم ويتمكن منها.
أسلم عدي بن حاتم سيد قبائل طيء فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (يوشك يا عدي! أن ترى المرأة تخرج من الحيرة إلى مكة حاجة بيت الله الحرام، فلا تخاف إلا الذئب) والحيرة بلدة في العراق، (ويوشكن يا عدي! إن مد الله في حياتك أن تفتح كنوز كسرى، فقال له عدي: كسرى بن هرمزان؟! قال: نعم كسرى بن هرمزان، وليوشك أن تخرج بملء يدك ذهباً لتتصدق به على الفقراء والمساكين فلا تجد من يقبله منك).
قال عدي: وقد رأيت بعيني المسلمات يخرجن ليس معهن إلا الله، من الحيرة إلى مكة وفي جميع ديار الإسلام التي فتحت على المسلمين، لا تخاف أحداً من الناس، فتأتي إلى الحج وإلى العمرة، وتتجول في هذه الصحاري الواسعة، وتعود لبيتها ولأهلها فلا يمسها سوء ولا ينالها رعب، وقد شاركت في الاستيلاء على فارس وأخذ كنوز كسرى بن هرمز، وحكمت فيها مع المسلمين، وإن مدت بي حياة فسيكون الثالث مما أخبرني به النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن يخرج أحدنا بالذهب في يده يمده للفقراء والمساكين فلا يجد فقيراً ولا محتاجاً، فقد استغنى المسلمون جميعاً فلم يبق فيهم فقير ولا مسكين.
وهكذا كان في الصدر الأول، كان هذا في أيام عمر بن عبد العزيز، وغيره، في أيام عز الإسلام في مختلف الأقطار والأصقاع، في المشارق والمغارب، ولم يغير ذلك، ولم يعد الخوف بعد الأمن، والفقر بعد الغنى، والذل بعد العز، إلا بعد أن غير الناس ما في نفوسهم، فعصوا وخالفوا، فقتلوا عثمان وعلياً، وتمردوا على خلافة الحق فأغرقت الدماء أنهاراً، وإذا بالله الكريم يعاقبهم ويخيفهم ويفقرهم، ويستولي أعداؤهم على أرضهم، فكان ما كان من تلك الحروب الطاحنة، والصليبين والتتر والاستعمار الأخير، ومن البلاء الذي لا نزال نراه إلى اليوم، حتى إن ألعن الخلق وأشدهم غضباً -إخوان القردة والخنازير اليهود- تسلطهم على المسلمين لا يخفى، فيستبيحون دماءهم، وينتهكون أعراضهم، ويأكلون أموالهم، ويستحلون أرضهم، وهم مع ذلك لم ينتبهوا لما ابتلوا بسببه وعوقبوا؛ لمخالفتهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لذا قال الله جل وعلا: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [النور: ٥٥] فلا يكفي أن يزعم الزاعم منا أنه مسلم، وقد وعد الله المسلمين بالنصر، ولكنهم لا يعملون بالإسلام، فإذا دعوا لحكم الله أبوا وصدوا، وقد قال الله عن أمثال هؤلاء: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٨] فلم يبق من الإسلام إلا رسمه عند كثير من الناس إلا من رحم ربك، فعاقب الله عباده عندما تركوا دينه، ونشروا الفواحش والمعاصي على كل أشكالها، وغيروا الإمامة المحمدية، وقيادة الخلفاء الراشدين، إلى إمامة اليهود والنصارى، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهرياً، ولن يرفع الله ذلك حتى يعود المؤمنون لدينهم، لكتاب ربهم وسنة نبينهم.
وهكذا علمنا التاريخ والواقع، فعندما حدثت الفتن بين الصحابة لم يرفع الله عنهم البلاء والدم والفقر إلا بعد أن تابوا إلى الله وأنابوا، ثم بعد ذلك غير الناس وبدلوا؛ فسلط عليهم الصليبيون، فتابوا وأنابوا فرفع الله ذلك عنهم، ثم بعد ذلك مد لهم الملك والسلطان، وأعطاهم ما عودهم من خير وعز وغنىً، ولكنهم بعد ذلك كما قال الله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: ٥٩]، وما أنذر الله به قد حدث مرات تلو مرات في التاريخ، فسلط على المسلمين بعد الصليبين التتر، فاستباحوا ديار المسلمين، وشربوا مياه أنهارهم، واسقطوا الدور عليهم، وقتلوهم إلى أن جرت أنهر وبحار دماً عبيطاً من دماء المسلمين، ثم تابوا وأنابوا وتضرعوا إلى الله أن يرفع ما بهم من ذلة وهوان، فنصرهم وعاد بأفضاله عليهم، ففتحوا القسطنطينية، وأصبحت تسمى دار الإسلام، تسمى: إسلام بول، أي: مدينة الإسلام، وهكذا انتصر الإسلام إلى أراض أخرى لم تكن دخلت في الإسلام ولا في عصر الصحابة، ولا في عصر التابعين، وهكذا انتشر الدين وامتد.