تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)
قال الله جلت قدرته: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ١ - ٢].
سورة الفرقان هذه فرق الله بها بين الحق والباطل، وفيها الكلام على كتاب الله المنزل على نبيه وعبده صلى الله عليه وسلم، وما قاله المبطلون عنه، وعن رسول الله المنزل عليه، ولكن الله دحض باطلهم وكذبهم في هذا الكتاب، وفي هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فساق كل كفرياتهم الصلعاء، وأكاذيبهم وافتراءاتهم، وكما يقال: ما أشبه اليوم بالأمس، فهذه الكفريات التي قيلت منذ ألف وأربعمائة عام هي الكفر والظلم والافتراء الذي لا يزال يذكره الكفار اليوم بنفسه وشكله، والكفار منبعهم ومرجعهم واحد، وهو الجحود بالله ورسالاته، والكفر بالكتب السماوية، وما أوحى الله به إلى رسله.
قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ [الفرقان: ١] أي: تعاظم وتقدس، وزاد إنعامه على خلقه وعباده مؤمنين ليشكروا النعمة، وليزيدهم الله من فضله، وكافرين لتقوم عليهم الحجة البالغة، ولا يجدون عند العرض على الله ما يبرر كفرهم وجحودهم.
قوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ [الفرقان: ١] أي: تبارك الله أحسن الخالقين، وتبارك الله منزل الكتاب على عبده، وتبارك الله الخالق الرازق المحيي المميت.
والفرقان: هو القرآن الكريم الذي أنزله على عبده محمد سيد الخلق صلى الله عليه وعلى آله؛ ليكون كتابه الذي به يفرق بين الحق والباطل، والذي به يعلم هو قبل غيره ما الإسلام عقائد، وما الإسلام أحكاماً، وما الإسلام آداباً، وما الإسلام مآلاً وحالاً ودنياً وآخرة.
قوله: (على عبده) أشرف صفة يوصف بها نبي هي كونه عبداً لله، والله قد ذكر العبودية في أشرف حالة أكرم بها نبيه ﷺ في ليلة الإسراء، إذ قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾ [الإسراء: ١]، هذه الحالة التي لم تكن لنبي قبل ولا لرسول، حيث أسري به إلى البيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات العلى إلى أن سمع صريف الأقلام، وصار قاب قوسين أو أدنى، ومع ذلك ما زاغ منه البصر وما طغى، وفي هذه الليلة صلى إماماً بالأنبياء منذ آدم وإلى آخر الأنبياء قبله وهو عيسى ابن مريم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالله عندما يصف عبده ونبيه ورسوله بالعبودية له فذلك تشريف ورفعة، وذلك مقام لا يكاد يحله غيره.
قوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١] هذا الكتاب أنزله عليه وجعله به رسولاً، وجعله به بشيراً ونذيراً.
(ليكون للعالمين) أي: عالم الإنس والجن، منذ ظهر في هذه البقاع المقدسة وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨] فكان رسولاً للإنس وللجن، قال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الجن: ١]، فقد استمع نفر من الجن القرآن واهتدوا به، فمنهم المسلمون كذلك، ومنهم الجاحدون كذلك، ولا يزال يسمى في مدينتنا هذه المقدسة مسجد باسم الجن؛ لأنهم قالوا: في ذلك المكان أوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام سورة الجن، وفي ذلك المكان جاءه الجن مؤمنين به، سائلين عن الكتاب المنزل عليه، طالبين البيان والإيضاح لهذه الرسالة الجديدة؛ الرسالة المحمدية الخالدة، وهذه الآية ﴿لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١]، وهي كقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨].
فأمر الله نبيه وعبده وخاتم أنبيائه محمداً ﷺ أن يقف فينادي في الناس كلهم من عاصره ومن لم يعاصره، ومن سمع فليحدث من لم يسمع، وهكذا إلى أن قامت علينا حجة الله، فسمعنا نحن كذلك النداء عن آبائنا وشيوخنا، وهم سمعوه عن آبائهم وشيوخهم إلى المرسل إليه إلى خاتم الأنبياء محمد ﷺ إلى الروح جبريل رسول الملائكة إلى الرسل من الناس إلى الله جل جلاله وعلا مقامه.
قوله: (نذيراً) أي: مخوفاً، ومنذراً، ومهدداً، وموعداً، إذ عندما برز ﷺ ونزل عند أم المؤمنين الأولى بعد نزول الوحي عليه في غار حراء في هذه المدينة الطاهرة المقدسة نزل إلى زوجه يرجف فؤاده، وترعد نفسه، وهو يقول: (زملوني زملوني!) أي: غطوني، فأخذته قشعريرة نتيجة هذا الحمل الثقيل الذي كلف به، ثم قص قصته على خديجة ومنذ أعلم ذلك لم يكن في الأرض مهتد واحد، وكان الوحي ينزل إلى النبي ﷺ بين كل الخلائق؛ ولذلك أنزل عليه القرآن ليكون لجميع العوالم عالم الإنس والجن، فمن أدركه من هؤلاء ومن سيأتي بعده إلى يوم القيامة يكون مخوفاً لهم من عذاب النار، ومن البقاء على الشرك وعلى النصرانية التي بدلت وحرفت ثم نسخت، ومن اليهودية التي بدلت وحرفت ثم نسخت، فقد نسخت التوراة والإنجيل بالقرآن الكريم المهيمن عليهما، ونسخت رسالة صاحبيها برسالة محمد صلوات الله وسلامه عليه إلى الناس كافة الأبيض والأسود، كما قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود) وكما قال صلى الله عليه وسلم: (كان النبي قبلي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) وذاك من خصائصه، وما يزعم من يزعم بأن الأديان الثلاثة عالمية: الديانة اليهودية، والنصرانية، ثم الإسلام فهذا كذب وزور، ومن التحريف الذي حرف به النصارى واليهود دينهم، وتبعهم بعض من لا يعلمه من أفراخ المسلمين الذين تلقوا علومهم عنهم، فهم اسمهم في القرآن وفي التواريخ القديمة: أنبياء بني إسرائيل، وخاتمهم عيسى، وقد جاء في الإنجيل عنه: (إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل).
قلت: وقد أكد القرآن المهيمن على الكتب السماوية هذا المعنى فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ [الصف: ٦]، فجاء مصدقاً لتوراة موسى، وأنه مرسل لليهود فقط، ولبني إسرائيل فقط لا غيرهم، ولو كانت ديانته في أيامها لم تحرف بعد، ولم يحرف الإنجيل والتوراة بعد، ولو آمن بها غير اليهودي لكان آمن بما لم يكلف به ولم يبعث إليه، فنبينا وحده صلى الله عليه وعلى آله هو الذي اختص بذلك، وذاك من خصائصه كما قال في بداية هذا الحديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان الأنبياء يبعثون إلى أقوامهم خاصة وبعثت إلى الناس عامة) ومصداق ذلك هذه الآية، ونظائرها في القرآن كثير، وهو مما هو معلوم من الدين بالضرورة، يعلمه العالم والجاهل، ويعلمه الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والمؤمن والكافر، وأن محمداً عندما ظهر -وهو خاتم الأنبياء والرسل- دعا الناس كافة إلى دينه، وكتب قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام إلى القياصرة والأباطرة وإلى كسرى وأمثاله، وإلى جميع ملوك الأرض وأمرائه يدعوهم إلى الإسلام؛ لتكون حجة الله البالغة، وليقوم ﷺ بما كلف به من البلاغ ودعوة الناس كافة عربهم وعجمهم، مؤمنهم وكافرهم، وثنيهم وكتابيهم، يدعوهم إلى الله وحده وإلى رسالته، وأنها نسخت ما سبق قبل: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥]، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩].
وكما قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي) وعيسى في السماء الأولى، وسينزل في آخر الدنيا عند قرب الساعة، سينزل إلى الأرض وهو على دين نبينا، فيصلي صلاتنا، ويصوم صيامنا، ويستقبل قبلتنا، ويحج حجنا، وهو يكون بذلك من أتباعه وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله، إذ تعريف الصحابي انطبق على عيسى، وهو: من رأى النبي ﷺ في حياته وآمن به ومات على ذلك، وعيسى اجتمع بنبينا ليلة الإسراء والمعراج في السماء الأولى، وقال عيسى لنبينا: مرحباً بنبي الله أخي، فهو قد اعترف به نبياً، ثم نزل معه، ونزل كل أرواح الأنبياء من في الأرض ومن في السماء وصلوا خلفه في المسجد الأقصى، صلى بهم إماماً، وقد تواترت بذلك الأحاديث والأنباء فلا ينكر ذلك إلا جاهل.


الصفحة التالية
Icon