تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام)
قال الله تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٢٠].
قوله: ﴿لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٢٠] فهم آمنوا بأنبياء سبقوا، فالنصارى وآمنوا بعيسى وبأنبياء بني إسرائيل، واليهود آمنوا بموسى وهارون وهم يعلمون كلهم أن موسى تزوج وولد، وأن هارون تزوج وولد وأكل وشرب، وذهب إلى الأسواق، ورضي وغضب، ومرض وارتاح، وأخيراً مات وفني.
﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الفرقان: ٧] لماذا لا يكون معه ملك فيكون معه نذيراً؟ فلو جاء معه ملك ومشى معه في السوق وجعل يقول: يا جماعة! أنا ملك، ولو قال: أنا ملك لكذبوه وقالوا: أنت لست ملكاً؛ لأنهم سيتصورون أن الملك لا يرى، ولو نزل عليهم بأجنحته التي تغطي الأفق لفزعوا، ولربما جنوا، ولو نزل عليهم في سورة بشر كما حدث لجبريل حيث نزل في صورة أعرابي، ونزل كثيراً في صورة دحية الكلبي لو رأوه لقالوا: هذا دحية الكلبي أين جبريل؟ هذا بدوي أعرابي أين جبريل؟ أين الملك؟ ولذلك فهؤلاء لا يسألون عن الحقائق، وإنما هم متعنتون، هم افترضوا من الأصل أن النبي ﷺ ليس صادقاً، وأن القرآن ليس كلام الله، فهم كلما وصلوا إلى هذه الأكاذيب والأضاليل وعندما يطلبونها لا يقصدون الطلب، وإنما يقصدون التعنت بحيث لو أجيبوا لما طلبوا لما آمنوا، ولعلهم يزدادون كفراً، وإصراراً على الكفر.
﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الفرقان: ٧] لو أنزل الله ملكاً يعاونه، ولم يحتج إلى ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فمن هؤلاء الكفار من آمن وكانوا معه أعواناً ووزراء ومعزرين ومؤازرين، وقد توفي عليه الصلاة والسلام كما يتوفى كل الخلق والبشر، وقام بالرسالة بعده وبدولته وبأحكامه بعده خلفاؤه الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والصحب الكرام من الرعيل الأول، ولم يحتج الإسلام إلى ملك، ويكفي أن ينزل الملك بكتاب الله وحياً على نبيه عليه الصلاة والسلام، وفي هذا كفاية.
قوله: ﴿فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ٧] أي: فيعينه على النذارة والدعوة إلى الدين والإسلام، (لولا أنزل) أي: هلا نزل، فهم يطلبون ذلك ويحضون عليه.
﴿لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ٧] ينذر ويبشر معه، ويهدد معه، إذاً لأصبح رسول البشر ملكاً، ولو كان ملكاً لجعله الله رجلاً لنفهم عنه ويفهم عنا، ولو جاءنا إنسان من الأفق له من الأجنحة مثنى وثلاث ورباع كما وصف الله الملائكة بأجنحتهم فكيف سنستفيد منه؟ ولو نزل أمامنا لغطانا، ولكدنا نسحق تحت أجنحته وبدنه، ولو جاءنا بشراً لقلنا: هذا بشر، فما الفرق بينه وبين بشر محمد وموسى وعيسى عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه؟! ثم قالوا كلام آخر: ﴿أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ﴾ [الفرقان: ٨] أي: يرمي له الله من السماء بكنوز.
قال تعالى: ﴿أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الفرقان: ٨].
أي: هؤلاء بقوا على ضلالهم وأكاذيبهم بجملة ما قالوا، حيث قالوا: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾ [الفرقان: ٧ - ٨] قالوا: لماذا لا ينزل عليه كنز من السماء يستغني به عن المشي في الأسواق وعن البيع والشراء؟! ولو حدث هذا لقلتم: تأتيه الأموال من كسرى وهرقل، وهكذا يفعل هؤلاء المتعنتون الكفرة!