تفسير قوله تعالى: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال)
قال الله تعالى: ﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٩].
والأمثال التي ضربوها هي قولهم: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الفرقان: ٧ - ٨].
أي: ضربوا له الأمثال والأشباه والنظائر، فقالوا: ليس هذا الرسول إلا رجلاً مثلنا ليس بمَلِك ولا مَلَك، وليس بكبير بيننا ولا ميزة له، فهو يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ويدخل الأسواق كما ندخل، فيتكسب ويبيع ويشتري ويتبذل، ويظهر في الأسواق والشوارع والأزقة كما يظهر أحدنا، وقد تصور المشركون في النبي أن يكون ملكاً لا تبصره عين، ويستغني عن الطعام، وبالتالي لا يدخل الأسواق كما يدخل من يأكل ويشرب، ويتصورون منه أن ينزل معه ملك من السماء فيصدقه ويقول للناس: صدقوه، فإنه رسول من ربكم.
ويقولون عنه: لو كان كذلك لاستغنى عن الأسواق والكسب والبيع والشراء والتجارة، ولأنزل إليه كنز من السماء يستغني به عن البيع والشراء والتكسب.
وقالوا: لو كان رسولاً لأنزل الله إليه جنة، أو صنعها له في الأرض فيأكل منها ويستغني بها عن البيع والشراء، أو أنزل معه ملكاً يصدقه فيكون معه نذيراً، مهدداً وموعداً ومبشراً للناس أن يتبعوه، فإن لم يفعلوا عذبوا وعوقبوا بغضب الله ولعنته، وعلى ذلك أخذوا جواباً لأنفسهم، قال تعالى عنهم: ((وقال الظالمون)) أي: وقال الكافرون، والظلم هنا: الكفر.
قالوا: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الفرقان: ٨] أي: رجلاً صرف عن العقل والفهم وغر في نفسه، وزعم ما ليس له، وهكذا أوحت إليهم شياطينهم من الهراء والغث من القول ومما لا دليل عليه، فالمشركون لهم عقول سخيفة لم ينرها نور الإسلام، ولم يهدها علمه، ولم يشرق عليها التوحيد يوماً.
ومتى قال لهم النبي: أنا ملك، أو قال لهم: أنا مستغن عن الطعام والشراب؟ لم يقل هذا قط، فهم يعلمون أنه نشأ بينهم كما ينشأ الناس من أم وأب، وعاش بينهم أربعين سنة يفعل ما يفعله عموم الناس، ولم يقل يوماً: أنا نبي ولا رسول، ولا ادعى دعوى.
وما كان يعرف بينهم إلا بالصديق والأمين، وقد وصل إلى الأربعين وهو لم يكذب مدة حياته، وحاشاه من ذلك على الناس، أبعد الأربعين سيكذب على الله؟! حاشا الله ومعاذ الله.
هذا وقد أتاهم بالمعجزات فعجزوا أن يصنعوا مثلها، وأعظمها ما رأوه وعرفوه أنه منذ كان صغيراً وشاباً إلى أن بلغ الأربعين وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يخطب ولا يقول شعراً.
وكما قال العارف: كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم فكفى معجزة بعد نزول القرآن بأن هذا الأمي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يجلس يوماً لشيخ، ولم يسمع من شيخ، ولم يكن في عصره من يمكن أن يجلس إليه، فكلهم كانوا أمة أمية، وقد قال عليه الصلاة والسلام عن العرب: (نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب).
فهذا الأمي بعد الأربعين عاماً أتى بعلوم الأولين والآخرين، وأتى بما أعجز الآخرين واللاحقين، وما لم يكد يعرفه المعاصرون، ولم يأت بنظيره من سبقه حتى من الأنبياء والمرسلين، فضلاً عن الفلاسفة والعلماء والمثقفين ومن إليهم.
قد رأوا كل هذا رأي العين، وسمعوه سماع الأذن، وعاشروه عشرة القرابة والعمومة والسكن، ومع ذلك أبى كفرهم وأبى ضلالهم إلا أن يضربوا له النظائر والأشباه والأمثال.
فقوله: ﴿انظُرْ﴾ [الفرقان: ٩] أي: انظر يا محمد! قوله: ﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا﴾ [الفرقان: ٩] أي: كيف زاغوا وضلوا عن الحق والهدى، وكيف زادت البصائر منهم عمىً وضلالاً وظلماً، وكيف أخذوا يشبهونك بغيرهم وبأنفسهم، لم؟ لأنك تأكل وتشرب وتتكسب وتستغني عنهم وعما عندهم، فتعيش كما يعيش الإنسان الشريف الفاضل بعرق جبينه، وتعيش بالأخذ والعطاء وكسب الحلال حتى في السنوات التي كانت قبل النبوءة.
فهم يعيرونك بشيء عاره ظاهر عليهم، كيف وقد قالوا: إن الله ما أرسل من المرسلين أحداً إلا وهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
قال تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٢٠] أي: لم تكن يا محمد! بدعاً من الرسل، ولم يُقَل لك إلا ما قد قيل لهم، ولكن هؤلاء شياطينهم توحي إليهم ما لا يقبله عقل سليم ولا نفس منيرة، ولا رجل اهتدى يوماً بكلمة حق وكلمة نور وكلمة هداية وتوحيد.
فقوله: ﴿الأَمْثَالَ﴾ [الفرقان: ٩] أي: النظائر والأشباه، فشبهوك بعموم الناس بأنك تأكل وتشرب مثلهم.
ثم أخذوا يزعمون أنك بعملك هذا مسحور وساحر، وأنك مفتر وكاذب، وأنك وأنك، وحاشا الله ومعاذ الله.