تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا)
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ [الفرقان: ٢١].
لقد تمادى هؤلاء المجانين في كفرهم، فقد طلبوا نزول الملائكة مع النبي ليؤيدوه، فهذه المرة طلبوا الملائكة أن تأتيهم، وطلبوا الرب نفسه أن ينزل إليهم ويقول لهم: صدق عبدي محمد، وتقول الملائكة: صدق محمد فقد أرسله الله.
فعندما تنزل الملائكة وتقول: نعم، صدق محمد، كيف سيعلمون أنهم ملائكة؟ وكيف سيصدقونهم؟ وإن كذبوهم فستنزل عليهم عقوبة الأرض والسماء، وقد قال الله لنبيه: إن شاء فعل ذلك، ولكن إن فعله ولم يؤمنوا فإنه سيعاقبهم بما عاقب به الأمم السابقة عندما طلبوا مثل ذلك وأعطاهم الله إياه.
فدمر قوم نوح بالغرق، ودمر ثمود وعاداً وقوم لوط وقوم فرعون بالغرق والسحق والرجم من السماء والعواصف وبكل أنواع البلاء في الدنيا قبل الآخرة.
فقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ [الفرقان: ٢١] أي: لا يخافون لقاءنا ولا يؤمنون به، أي: لقاء الله يوم القيامة، فهؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون باليوم الآخر لا يؤمنون بالله، قالوا: يا محمد! إن شئت أن نؤمن بك فلتنزل معك الملائكة علينا.
فقوله: ﴿لَوْلا﴾ [الفرقان: ٢١] أي: هلا.
﴿لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ [الفرقان: ٢١] أي: هلا نزل ربنا فقال لنا: هذا عبدي فصدقوه وأنا أرسلته نبياً.
ولو خاطبهم الله بذلك لأصبحوا رسلاً أيضاً، ولو خاطبهم الملائكة لأصبحوا رسلاً أيضاً، فالله تعالى لا يكلم أحداً من خلقه إلا من وراء حجاب.
وعندما طلب موسى ما يشبه هذا ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣] قال له الله: ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: ١٤٣]، وموسى من أولي العزم من الرسل، ومع ذلك لما اندك الجبل وحدث له صوت كالرعد إذا بموسى يغمى عليه.
وطلب إبراهيم أبو الأنبياء من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، قال تعالى: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، فهذا لم يطلب الرؤية، وإنما طلب أن يرى كيف يعيش الإنسان بعد الموت، ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾ [البقرة: ٢٦٠] وقد فعل، إذ جاء بأربعة من الطيور في قرية برزة من أرض الشام في الغوطة، فقطعها وخلطها عظاماً وريشاً ولحماً، وجعل في رأس هذا الجبل شيئاً وفي هذا شيئاً، ثم دعاها كما أمره الله، فأخذ الريش والأعضاء تطير حتى صار كل عضو في مكانه، وهكذا رأى ما أراد به الاطمئنان واليقين، أما أن يرى ربه فلم يطلب ذلك.
قال تعالى عن هؤلاء: ﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ [الفرقان: ٢١] أي: تعالوا وتعاظموا وظنوا أنفسهم شيئاً، وهم على كفرهم وشركهم أرادوا أن يؤكد الله أن هذا نبيه ولم يكتفوا بالمعجزات، ولم يكتفوا بالسيرة النبوية في حد ذاتها، ولم يكتفوا بنزول القرآن، فقال الله عنهم: ﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ [الفرقان: ٢١] أي: تعاظموا حتى ذهبت عقولهم، فاستعملوا الكبرياء والعظمة التي لا تليق إلا به جل جلاله.
قال تعالى: ﴿وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٢١] العتو: هو شدة الطغيان والكفر، والإغراق في الكفر والإصرار عليه، فهؤلاء الكافرون لم يكتفوا بالكفر والشرك، بل زادوا فعتوا وطغوا وتجبروا واستكبروا استكباراً، وقوله: (عتواً) مفعول مطلق، أي: ازدادوا في الطغيان والجحود والكفران حتى تجاوزوا الحد في ذلك.
فهؤلاء المشركون أنكروا الساعة وكفروا بالله، فهم ليسوا سائلين حقاً ولا مستدلين بمعجزة، ولكنه التعنت والجحود والكفران، فلا يكاد النبي يظهر لهم معجزة أو آيةً أو عملاً إلا تركوا ذلك وطلبوا غيرها.
وهكذا إلى أن وصلوا ليطلبوا الملائكة تنزل عليهم، والرب نفسه ينزل عليهم -تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً- ليقول لهم: صدق عبدي، ولم يكتفوا بأن يقول: صدق عبدي بما أنزل عليه من وحي وكتب وعلم وأدب وسيرة انفرد بها دون الخلق، وكانت هي المثال الأعلى.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: ٢٢] أي: اليوم الذي سيرون فيه الملائكة لن يبشروا فيه بخير، فإنهم لن يروا الملائكة إلا في حالتين: عند الاحتضار، أو يوم القيامة.
فمن احتضر وهو مشرك كافر تأتيه الملائكة وتنتزع روحه وتضربه من أمامه ومن خلفه؛ لينتزعوا الروح، وإذ ذاك لا يبشرون ولا سبيل إلى البشرى، بل يبشرون بالغضب واللعنة، وإذا أتاهم منكر ونكير وسألوهم: من ربك؟ من نبيك؟ فإنهم لا يحسنون جواباً؛ لأنهم كانوا مشركين في الدنيا، فينزلون عليهم بالمقارع وبالمرازب، إلى أن ينزل الإنسان إلى الأرض السابعة، ثم يصعد، وهكذا العذاب إلى يوم البعث والنشور، وبعد ذلك نار الله المتسعرة ونقمته الدائمة.