تفسير قوله تعالى: (ويوم تشقق السماء بالغمام)
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٥ - ٢٦].
هذا اليوم يوم البعث والنشور هو يوم تتشقق فيه السماء وتزول وتتناثر، وتنزل ملائكة السماء الدنيا إلى الأرض، ويكون عددهم أكثر من عدد الإنس والجن في الأرض، فالسماء الأولى تتشقق وتتناثر وتتطاير وتزول وتفنى، وينزل ملائكتها للعرض على الله وللحساب.
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾ [الفرقان: ٢٥] أي: تتشقق ويظهر منها نور وشعاع أشبه بالغمام، وهو نور من نور الله، فلله نور السماوات والأرض، ونوره جل جلاله ظاهر في الكون، وبه أشرقت السماء والأرض، وبه هدى الله القلوب، وبه أشرقت نفوس المسلمين للحق والهداية، ويهدي الله لنوره من يشاء.
وهذا النور الذي ينزل كالغمام ينزل منثوراً يراه من في الأرض ومن في السماء، ثم تنزل ملائكة السماء الدنيا إلى الأرض، ثم تتشقق السماء الثانية وينزل كذلك من فيها، وهم أكثر عدداً، وأكثر ملائكة وجموعاً، وأكثر من ملائكة السماء الأولى.
وهكذا قل عن الثالثة والرابعة والخامسة فالسادسة فالسابعة.
وينزل من السابعة الملائكة الكروبيون، أي: قادة الملائكة ورؤساؤهم كجبريل وكإسرافيل وكعزرائيل وبقية قادة الملائكة، واسمهم الكروبيون.
وهؤلاء سكان السماء السابعة أكثر من جميع سكان السماوات الأخر وسكان الأرض، وينزلون كلهم فزعين، منتظرين أمر الله في الحساب والعرض عليه، في يوم كان مقداره كألف سنة مما تعدون.
فيكون حساب المؤمن يسيراً هيناً، فلا يكاد يشعر به إلا كضحوة نهار إلى القيلولة، وتتم قيلولته على الأسرة في الجنان مع إخوانه المسلمين، ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧].
وأما الكافرون والعصاة المذنبون ممن يريد الله عذابهم وتأديبهم وعقوبتهم فيكون عليهم العذاب والحساب عسيراً.
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾ [الفرقان: ٢٥] أي: تتشقق ويظهر منها هذا الغمام والنور، وتكون قد زالت عن أماكنها.
قال تعالى: ﴿وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٥] أي: ينزلون بأمر الله، وينزل كل الملائكة الذين في السماوات جميعاً، وينزل بعد ذلك ربنا جل جلاله يحمل عرشه ثمانية من الملائكة، وكل ملك من هؤلاء الملائكة من طوله ومن عرضه ومن عظمته ومن كبره ما لا يكاد يقبله عقل ولا تتصوره نفس حتى يرى ذلك رؤيا العين.
وينزل ربنا نزولاً يليق بجلاله وبألوهيته، وكلما يخطر ببالك فربنا مخالف لذلك، وليس في ذلك شيء يشبه الخلق نزولاً وحركة، وإنما هو نزول كقولنا عن الله جل جلاله: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠]، وقوله: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦]، وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥].
ونقول ما قاله ربنا، ونثبت ما أثبته نبينا صلى الله عليه وسلم، ونقرأ مع ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، ونتلو مع ذلك: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤].
فهو سبحانه لا كفؤ له في ذات، ولا شبيه له في فعال ولا ذات، وهو ربنا جل جلاله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
ونثبت ما قاله صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله جل جلاله يوم القيامة للحساب وللقضاء وللفصل بين الناس).
وتجتمع الملائكة الذي لا يحصي عددها إلا الله، وعددهم كعدد الحصى والرمل سماءً بعد سماء إلى السابعة، وهذا مضاف إلى ملائكة الأرض، فمع كل واحد منا ملكان، الملك الأول الذي عن اليمين يكتب الخير، والذي عن اليسار يكتب الشر.
فهؤلاء جميعاً يجتمعون ويقفون إجلالاً وعظمة لربهم مع المتقين والمؤمنين كذلك.
وأما المشركون والعصاة فقلوبهم تصل إلى حلاقيمهم رعباً وفزعاً وهلعاً مما هم فيه، والملائكة يقولون: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، فيسبحون ربهم ويقدسونه ويعظمونه، ولا ينقطع لسانهم ونطقهم عن الذكر والتكبير والتهليل والتقديس والتعظيم لربنا جل وعلا.
قال تعالى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ﴾ [الفرقان: ٢٦] أي: الملك الحق هو للرحمن وحده، يوم أن يقول: أين الملوك؟ أين الجبابرة؟ أين الطغاة؟ فلا مجيب، فيجب الله نفسه جل جلاله ويقول: أنا الملك، أنا الديان، أنا الخالق.
وإذ ذاك لا ملك ولا سلطان ولا جبار ولا طاغية ولا من يقول: أنا، فالكل عبد مطأطئ رأسه؛ ينتظر نتيجة حسابه إما إلى جنة وإما إلى نار.
ويكون الملك يوم ذاك الملك الحق الرازق الخالق، المنفرد بالملك وبالرزق وبالإحياء وبالإماتة، ويكون قد أمات من أمات وأحيا من أحيا، ثم أعاد الكل إلى الحياة الثانية وإلى البعث والنشور؛ ليحاسب كلاً على عمله.
قال تعالى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ﴾ [الفرقان: ٢٦] أي: يوم القيامة، وهو يوم تتشقق فيه السماوات السبع، ويبرز منها الغمام والنور الإلهي، وهذا الذي يظهر كأنه الغمام ما هو إلا نور الله جل جلاله، وهو يوم تندثر فيه السماوات وتتوزع وتصبح هباءً وعهناً منفوشاً، وينزل الكل إلى الأرض؛ ليحاسبوا على أعمالهم، فأهل الجنة المؤمنون بالله إلى الجنة، والكفرة العصاة إلى النار.
قال تعالى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ﴾ [الفرقان: ٢٦] أي: الملك الحق ليس لأحد، وأما الملك الذي نراه اليوم فهو ملك زائف معار، لو دام لدام للذي سبقه ولما فني الأول، وما فني الأول إلا ليفنى الثاني، فلا ملك إلا ملك الله، فالله جل جلاله المالك المنفرد بالملك وبالخلق.
قال تعالى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٦].
وهذا اليوم يكون عسيراً على الكافرين، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٥ - ٣٧].
وكما قال تعالى: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ٢]، وهو يوم يشتد العرق بالناس فيه فيأخذ البعض إلى ركبته، والبعض إلى سرته، والبعض إلى صدره، والبعض يغرق في ذلك ولا يموت، ويختنق ولا يموت وهو في العذاب المقيم.
وهذا اليوم يكون فيه للمؤذنين ميزة، ففي الحديث الصحيح: (المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً).
ومعنى كون أعناقهم أطول أي: إنهم في هذا اليوم مهما غرقوا في عرقهم فأعناقهم طويلة فلا يصل العرق إلى حواسهم، فلا يصل إلى أعينهم ولا إلى أذانهم ولا إلى مناخرهم ولا إلى شفاههم، فيكونون بذلك في منجى عن الاختناق.
فهذا اليوم يكون عسيراً على الكافرين وصعباً وشديداً، وتتعثر بهم الحياة إذ ذاك ويتعثر حسابهم، ثم يسحبون على وجوههم بعد الوقوف، وهم قد أتوا مفلسين من الإيمان ومن الصلاح ومن طاعة الله وطاعة أنبيائه، فيسحبون على وجوههم إلى النار، وهذا بعد أن يكون اليوم كألف سنة مما تعدون.
وليس يوم القيامة يوماً واحداً بل هو أيام، ولكن الله يقصر ذلك على المؤمنين الأتقياء الصالحين فيكون كما بين الضحوة والقيلولة، وتكون قيلولتهم في الجنة، ولذا قال ربنا: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤].